الأعداد محمد هاشم البستوي القاسمي
ما هي خيبر
خيبر هى مدينة كبيرة ذات حصون ومزارع، ونخل كثيرة، على ثمانية برد[1] من المدينة إلى جهة الشام، وكانت قاعدة حربية لليهود، وآخر معقل من معاقلهم في جزيرة العرب.[2]
سبب غزوة خيبر
ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقوى أجنحة الأحزاب الثلاثة، وأمن منه أمنا باتًّا بعد الهدنة أراد أن يحاسب الجناحين الباقيين- اليهود وقبائل نجد- حتى يتم الأمن والسلام، ويسود الهدوء في المنطقة، ويفرغ المسلمون من الصراع الدامي المتواصل إلى تبليغ رسالة الله والدعوة إليه.
ولما كانت خيبر هي وكرة الدس والتآمر، ومركز الإستفزازات العسكرية ومعدن التحرشات وإثارة الحروب، كانت هي الجديرة بالتفات المسلمين أولاً.
أما كون خيبر بهذه الصفة، فلا ننسى أن أهل خيبر هم الذين حزبوا الأحزاب ضد المسلمين، وأثاروا بني قريظة على الغدر والخيانة، ثم أخذوا في الإتصالات بالمنافقين- الطابور الخامس في المجتمع الإسلامي- وبغطفان وأعراب البادية- الجناح الثالث من الأحزاب- وكانوا هم أنفسهم يهيئون للقتال، فألقوا المسلمين بإجراآتهم هذه في محن متواصلة، حتى وضعوا خطة لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، وإزاء ذلك اضطر المسلمون إلى بعوث متوالية، وإلى الفتك برأس هؤلاء المتآمرين، مثل سلام بن أبي الحقيق، وأسير بن زارم، ولكن الواجب على المسلمين إزاء هؤلاء اليهود كان أكبر من ذلك. وإنما أبطأوا في القيام بهذا الواجب، لأن قوة أكبر وأقوى وألد وأعند منهم -وهي قريش- كانت مجابهة للمسلمين، فلما انتهت هذه المجابهة صفا الجو لمحاسبة هؤلاء المجرمين، واقترب لهم يوم الحساب.[3]
التجهز لغزوة خيبر
فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزو خيبر وفتحها، وكان الله سبحانه وتعالى بشّر أصحاب بيعة الرّضوان عند انصرافه من الحديبية بالفتح القريب والمغانم الكثيرة، فقال سبحانه:
﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً، وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ [الفتح: 18- 19].
وكانت مقدّمة هذه الفتوح والمغانم، غزوة خيبر.[4]
وجاءه المخلفون عنه في غزوة الحديبيّة ليخرجوا معه رجاء الغنيمة، فقال: لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد، وأما الغنيمة فلا. وبعث مناديًّا فنادى: لا يخرجن معنا إلا راغب في الجهاد. واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الغفاريّ، وقيل: أبا ذر، وقيل: نميلة بن عبد اللَّه الليثي[5]. والأول أصح عند المحققين[6].
فخرج إليها في بقيّة المحرم سنة سبع مستنجزًا ميعاد ربه وواثقًا بكفايته ونصره، ودفع الراية إلى علي بن أبي طالب -وكانت بيضاء-، وكانوا ألفًا وأربعمائة، منهم مائتا فارس، وكان عكاشة بن محصن الأسدي t على مقدمة الجيش، وعمر بن الخطاب t على ميمنته، وصحابي آخر على ميسرته، وضم جيش المسلمين عشرين صحابية للعناية بالمرضى والجرحى وتمريضهم. وكان عامر بن الأكوع يرتجز في مسيره إليها، فيقول:
والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدّقنا ولا صلّينا
إنّا إذا قوم بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا
فأنزلن سكينة علينا وثبّت الأقدام إن لاقينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ;من هذا السائق؟: قالوا: عامر بن الأكوع فقال صلى الله عليه وسلم: “يرحمه الله:، فقال رجل من القوم: يا نبي الله لولا متّعتنا به، فقتل يوم خيبر شهيدًا.[7]
فسلك صلى الله عليه وسلم في اتجاهه نحو خيبر جبل عصر[8]، فبنى له فيها مسجدًا، ثم على الصهباء[9]، ثم أقبل بجيشه حتى نزل به بواد يقال له الرجيع، فنزل بينهم وبين غطفان ليحول بينهم وبين أن يمدوا أهل خيبر وكانوا لهم مظاهرين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أن غطفان لما سمعت منزله من خيبر جمعوا ثم خرجوا ليظاهروا يهود عليه حتى إذا ساروا منقلة[10] سمعوا خلفهم فى أموالهم وأهليهم حِسًّا ظنوا أن القوم قد خالفوا إليهم، فرجعوا على أعقابهم فأقاموا فى أهليهم وأموالهم وخلوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وخيبر.[11]
وصول المسلمين إلى خيبر:
لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصهباء حان وقت العصر فصلى بها العصر، ثم دعا بالأزواد، فلم يؤت إلا بالسويق، فأمر به فثري، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكلنا، ثم قام إلى المغرب، فمضمض ومضمضنا، ثم صلى ولم يتوضأ،[12] ثم صلى العشاء بالناس.[13]
ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وصل إلى مشارف حصون خيبر ليلاً، فبات هو وأصحابه قريباً منها، وكان إذا أتى قومًا بليل لم يغر بهم حتى يصبح، فلما أصبح صلى الفجر بغلس، وركب هو وأصحابه فأتى خيبر، ولما أشرف على خيبر قال لأصحابه: ;قفوا:. ثم قال: ;اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها: ثم قال: ;أقدموا بسم الله:. وكان صلى الله عليه وسلم يقول هذا الدعاء لكل قرية دخلها.[14]
ولما وصل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه خيبر استقبلوا عمال خيبر غادين قد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم، وهم لا يشعرون بل خرجوا لأرضهم، فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والجيش، قالوا: محمد والخميس معه، فولوا هاربين الى حصونهم، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يهرعون إلى حصونهم أراد أن يقذف في قلوبهم الرعب فقال: ;الله أكبر! خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المنذرين:.[15]
الإقبال على خصون خيبر:
ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصون خيبر يفتحها حصنًا حصنًا فأول حصونهم افتتح حصن ناعم، وعنده قتل محمود بن مسلمة، ألقيت عليه رحى فقتلته؛ وكان قد حارب حتى أعياه الحرب وثقل السلاح وكان الحرّ يومئذ شديدا فانحاز محمود بن مسلمة الى ظل حصن ناعم يظنّ ان ليس فيه أحد وكان مرحب اليهودى أو كنانة بن أبى الحقيق يراه فأتى بحجر الرحى وألقاه على رأسه فهشمت البيضة على رأسه ونزل جلد جبهته على وجهه فأدركه المسلمون فارتثوه الى النبي صلى الله عليه وسلم فسوّى جلده بيده الى مكانه وعصبه بخرقة فمات من هذه الجراحة.[16]
فتح حصن القموص
ثم افتتح صلى الله عليه وسلم القموص حصن بنى أبى الحقيق، وقد استعصى حصن القموص على المسلمين، وكان عليّ بن أبي طالب رمدًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ;ليأخذنّ الرّاية غدًا رجل يحبّه الله ورسوله، يفتح عليه:، وتطاول له كبار الصحابة رضي الله عنهم وكلّ منهم يرجو أن يكون صاحب ذلك، ودعا عليّا، وهو يشتكي عينيه، فأتى فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه، ودعا له، فبرىء، حتّى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال عليّ رضي الله عنه: أقاتلهم حتّى يكونوا مثلنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ;انفذ على رسلك حتّى تنزل بساحتهم، ثمّ ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ الله تعالى فيه، فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحدًا خير لك من أن يكون لك حمر النّعم:.[17]
فأتى عليّ حصن القموص[18]، ودعا اليهود إلى الإسلام ولكنهم لم يرضوا باعتناق الإسلام والصلح، وخرج سيدهم وبطلهم مرحب من الحصن يرتجز، فاختلفا ضربتين، فبدره عليّ بضربة، ففلق مغفره ورأسه، ووقع في الأضراس، وكان الفتح.[19] ومنه سبيت صفية بنت حيي رضي الله تعالى عنها.[20]
وروي أن عليًّا لما انتهى الى حصن قموص كان أوّل من خرج اليه من الحصن الحارث اليهودي أخو مرحب مع أتباعه وباشر الحرب وقتل رجلين من المسلمين فقتله عليّ، فلما رأى مرحب أن أخاه قد قتل خرج من الحصن سريعًا مع أتباعه وهو يرتجز ويقول:
قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرّب
وروي أنه لم يكن فى أهل خيبر أشجع من مرحب، وكان يومئذ قد لبس درعين، وتقلد بسيفين، واعتمّ بعمامتين ولبس فوقهما مغفرًا وحجرًا قد ثقبه قدر البيضة، فبرز له عليّ وهو يرتجز ويقول:
أنا الذى سمتنى أمي حيدره[21] ** كليث غابات كريه المنظره
فاختلفا ضربتين، فبدره علي فضربه، فقد الحجر والمغفر ورأسه، حتى وقع في الأضراس وأخذ المدينة.[22]
ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حصن القموص وأتي إليه بكنانة بن الربيع وهو من رؤساء يهود خيبر وكان عنده كنز بني النضير وأبي الحقيق وكان ملأ مسك جمل بالجيم وقيل حمار ذهبًا وعقودًا من الدر والجوهر، وإذا كان لأعيان أهل مكة ورؤسائهم وليمة أو عرس يبعثون إليه بالرهن ويستعيرون منه فيعطيهم من ذلك الحلي والجواهر ما أرادوه، وكان الكنز فى الأوائل ملأ مسلك حمل بالحاء المهملة، ولما ازدادت ثروة أبي الحقيق زادها حتى لا يسعها مسك شاة فجعلها فى مسك ثور، هكذا كان يزيد عليها حتى جعلها ملأ مسك بعير، ولما سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم كنانة عن الكنز قال: يا أبا القاسم صرفناها فى الحروب ونوائب الدهر حتى فنيت وما بقي منها شيء وحلف على ذلك، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إن ظهر خلاف ذلك أبحت دماءكم قالوا: نعم، فأشهد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك أبا بكر وعمر وعليًّا وعشرة من رجال يهود، فقام يهودي وقال لكنانة: إن كان ما يطلبه محمد عندك أو تعلم أين هو فأخبره تبق في أمانه وإلا فو الله ليطلعنه الله عليه فتفتضح، فزجره كنانة ولم يسمع كلامه، فأطلع الله نبيه على موضع الكنز فطلب كنانة فأخبره بكذبه وأنه أخبر به من السماء وكان كنانة حين رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم فتح حصن نطاة وتيقن بظهوره عليهم دفنه فى خربة.[23]
وبالجملة تم فتح هذا الحصن (القموص) بعد حصار عشرين يوماً. وبلغ قتلى يهود في معارك خيبر ثلاثة وتسعين رجلاً، فيهم نفر من أشرافهم كابني أبي الحقيق ومرحب. واستشهد من المسلمين عشرون رجلاً فيما ذكر ابن إسحق[24]، وأما الواقدي فذكر أنهم خمسة عشر رجلاً.[25]
الهوامش
[1] والبريد أربعة فراسخ، وكل فرسخ ثلاثة أميال. وفي المعالم الأثيرة في السنة والسيرة (ص: 109): وهي بلدة معروفة، تبعد عن المدينة 165 كيل شمالاً على طريق الشام.
[2] انظر: السيرة الحلبية (3/45)، والمواهب اللدنية بالمنح المحمدية: (1/336).
[3] الرحيق المختوم (ص: 333).
[4] انظر: السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي (ص: 419).
[5] إمتاع الأسماع (1/ 306).
[6] انظر فتح الباري (7/ 465)، وزاد المعاد (2/ 133).
[7] انظر: صحيح البخاري (6331)، والسنن الكبرى للبيهقي (4/ 25).
[8] بكسر أوله وسكون ثانيه، ورواه بعضهم بالتحريك، والأول أشهر وأكثر، وهو جبل بين المدينة ووادي الفرع، ;معجم البلدان: (4/ 128).
[9] اسم موضع بينه وبين خيبر روحة. ;معجم البلدان (3/ 435).
[10] منقلة: أي مرحلة.
[11] انظر: الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم والثلاثة الخلفاء (1/ 477)، و;لسيرة النبوية لابن كثير (3/ 345)، ورحمة للعالمين (ص: 204).
[12] صحيح البخاري (209).
[13] مغازي الواقدي (2/ 639).
[14] انظر: الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم والثلاثة الخلفاء (1/477)، وسيرة ابن هشام (2/329).
[15] انظر: تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس (2/ 45)، وسيرة ابن هشام (2/ 329).
[16] انظر: عيون الأثر (2/ 174)، وتاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس (2/ 46).
[17] انظر: المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (1/340)، والسيرة النبوية لأبي الحسن الندوي (ص: 423)، وصحيح البخاري (3701).
[18] اختلفت الروايات في تعيين الحصن الذي فتحه علي، والذي يرجح أنه كان حصن القموص؛ لأن هذا الحصن كان مركز مرحب الفارس اليهودي المشهور، وجاء في سيرة ابن هشام أن الذي قتل مرحباً هو محمد بن مسلمة. والمشهور أن الذي قتله هو علي بن أبي طالب، وقد جاء ذلك مصرحًا في رواية مسلم، والذي يرويه مسلم (1807) بسنده أولى بالاعتماد والترجيح.
[19] انظر: السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي (ص: 424).
[20] فتح الباري (7/ 478).
[21] يقال: إن عليًّا كاشفه بذلك لأن مرحباً رأى تلك الليلة مناماً أن أسداً افترسه، فأشار بقوله: حيدرة إلى أنه الأسد الذي يفترسه، فلما سمع ذلك ارتعد وضعفت نفسه. ;شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية: (3/259).
[22] تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس (2/ 50)، وتاريخ الطبري (3/ 13).
[23] تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس (2/ 46).
[24] سيرة ابن هشام (2/ 343).
[25] مغازي الواقدي (2/ 700).
Join our list
Subscribe to our mailing list and get interesting stuff and updates to your email inbox.