أهمية علم الحديث

أهمية علم الحديث، وصور من تضحيات علماء الحديث

مكانة وفضيلة علم الحديث وصور من تضحيات علماء الحديث

الإعداد: محمد شعيب القاسمي

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده  وعلى آله الطيبين الطاهرين واصحابه الغر الميامين

مكانة علم الحديث:

إن الإسلام حث المؤمنين على نيل العلم ومدح طلاب العلم والعلماء فقال تعالى في كتابه الكريم قارنا شهادته وشهادات الملائكة بشهادات العلماء: ” شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (آل عمران: 18) كما أشاد الله العلماء بنفي المساواة بينهم وبين من لم يؤت العلم حيث قال: “قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ” (الزمر: 9) وكذلك بين الرسول صلى الله عليه وسلم مكانة العلماء بقوله: “العلماء ورثة الأنبياء” [i] وهناك نصوص كثيرة تدل على فضل العلماء.

ومن بين العلوم يحتل علم الحديث الشريف مكانة أعلى وهو من أفضل العلوم وأجلها وأنفعها وأشرفها وأعظمها قدرا عند الله تبارك وتعالى  وحق له أن يكون فإن سائر العلوم الشرعية تقوم عليها وإنه علم شريف الذكر ورفيع القدر إعتنى به وحببه الصالحون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم وأتباع التابعين والعلماء الربانيون في كل زمان ومكان وافنى الرجال الموفقون من الله تبارك وتعالى حياتهم كلها في جمع الحديث وتبيين وتفصيل وشرح أحكامه وأقسامه وأصوله وفروعه وكذا اصبحوا يعرفون به كما قال الشاعر:

وللحديث رجال يعرفون به

وللدواوين كتاب وحساب

وإن هذا العلم لم تفنى محاسنه عبر مئات السنين ولن تفنى على ممر الدهر وذلك لأن هذا الدين هو الدين الخالد وخلوده من خلود الكتاب ولا يعرف ما هوا المراد والمقصود من كتاب الله إلا بكلام النبي صلى الله عليه وسلم ولذا فإن كلامه في مجمله محفوظ من الله تبارك وتعالى لكونه الشق الثاني للوحي الذي أوحاه الله لرسوله وقد قال الله تعالى: “وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ،  إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ “. قال أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي في مقدمة كتابه “الكفاية في علم الرواية”: “فإن الله تبارك وتعالى أنقذ الخلق من ثائرة الجهل، وخلص الورق من زخارف الضلالة بالكتاب الناطق والوحي الصادق، المنزلين على سيد الورى نبينا محمد المصطفى، ثم أوجب النجاة من النار، والبعد عن منزل الذل والخسار، لمن أطاعه في امتثال ما أمر والكف عما عنه نهى وزجر” [ii] فكلام الرسول عليه السلام هو أشرف الكلم كما هو بنفسه أشرف الخلق كلهم وكلامه تتوقف عليه أحكام الشريعة الإسلامية كلها وبالإيجاز فإن كلام النبي الأمي عليه ألف صلاة وسلام ليس ككلام زيد وعمرو بل كلامه بمنزلة المصباح في دجى الليل وبمثابة البدر المنير والحق كل الحق منحصر في كلامه صلى الله عليه وسلم وعلم كلامه هو العلم الحقيقي ومنزلة علم كلامه بين جميع العلوم كمنزلة الشمس بين كواكب السماء حيث إختفت جميع العلوم عندما طلع علم كلام الرسول صىلى الله عليه وسلم.

فإنك شمس والملوك كواكب

إذا طلعت لم يبد منهم كوكب

وبهذا العلم ينال المرء الفوز الأبدي بالجنة ويصل إلى الدرجات العلى ومن الذكاء كل الذكاء الإعتناء بهذ العلم الشريف حيث قال الإمام محمد بن علي بن حسين رضي الله عنه: “إن من فقه الرجل بصيرته أو فطنته بالحديث” وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

فضيلة علم الحديث:

وكفى لعلم الحديث شرفا ونبلا وفضلا بأن المؤمن يطلع به على أحوال وشمائل النبي صلى الله عليه وسلم ويشاهد به عباداته وعاداته كلها وقد صدق من قال: “أشدُّ البواعث وأقوى الدَّواعي لي على تحصيل علم الحديث لفظ (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)”. ويكفي للعلماء شرفا إشتغالهم بعلم الحديث الشريف وصرف أعمارهم في تعلم وتعليم ونشر الحديث ولو لم يحصل لهم من الفضل إلا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فهي من أفضل العبادات وأجل القربات حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة” [iii] والمشتغلون بعلم الحديث هم أكثر الناس صلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) وكذلك الإشتغال بعلم الحديث هو إمتثال لأمر النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: “بلغوا عني ولو آية” [iv] كما يدخل أهل الحديث في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم للحصول على النضرة في الوجوه حيث دعا عليه السلام: ” نضَّر الله امرأ سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه ، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ورب حامل فقه ليس بفقيه” [v] وقد شاهد الجهبذ الناقد من الطبقة الأولى من الحجاز سفيان بن عيينه رحمه الله هذه النضرة في وجوه أهل الحديث حيث قال: “ليس من أهل الحديث أحد إلا وفي وجهه نضرة لهذا الحديث” [vi]

فضائل أصحاب الحديث:

كما هو معلوم بأن مع مرور الوقت وتعاقب الدهور يحدث التحريف والبدع في كل دين ومذهب وذلك بهدف تشويه صورته الأصلية ولكن الله تعالى بفضله وكرمه تكفل بحفظ دين الإسلام وذلك عبر حفظ الكتاب والحديث وقد هيأ الله تبارك وتعالى فئة مخصوصة من العلماء الذين قضوا حياتهم لأجل الحفاظ على علم الحديث وحمايتها في كل عصر وزمان وتضحياتهم بأوقاتهم وراحتهم ونومهم في هذا السبيل ضخمة جدا حيث لا يوجد لها مثيل في التاريخ فدافعوا عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وحموا متون الروايات من التحريف والتبديل والتغيير والتأويل الباطل ومن محاولة العابثين والجاهلين للإدخال في السنة مما ليس منها ووضعوا معايير متينة وقوية لضبط الحديث ونقلوا السنة بكل أمانة حتى وصلت إلينا وكل ذلك مصداقا لقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: “يحمِلُ هذا العِلمَ من كلِّ خلَفٍ عدولُه ينفونَ عنهُ تحريفَ الجاهِلينَ وانتحالَ المبطلينَ وتأويلَ الغالينَ” [vii]

ولا شك أن في قوله (صلى الله عليه وسلم) بيان لعلو مرتبة وجلالة قدر علماء الحديث وتصريح واضح لعدالة حاملي السنة في كل زمان وذلك لأنه هم الذين ينقحون دين الله عز وجل ويحفظونه من تحريف الجهال وتدسيس الكذابين والخداعين والمبتدعة والمتشددين والغالين كما يوجد فيه مدح لأصحاب العلم وتحذير المسلمين من التشدد والغلو في الدين وترغيب للحصول على العلم الشرعي لأن العلم الشرعي يجعل حامليه خلفاء الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كما روى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: “اللهم ارحم خلفائي. قلنا: يا رسول الله، من خلفاؤك؟ قال: الذين يروون أحاديثي ويعلمونها الناس” [viii]

إن علم الحديث هو أفضل من التطوع بالصلاة والصيام ولكن إذا أريد به وجه الله تبارك وتعالى كما قال  إمام من أئمة الحديث وعلم من أعلام الزهد وسيد العلماء العاملين في زمانه أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري رحمه الله:  “لا أعلم علماً أفضل من علم الحديث لمن أراد به وجه الله تعالى، إن الناس يحتاجون إليه حتى في طعامهم وشرابهم، فهو أفضل من التطوع بالصلاة والصيام؛ لأنه فرض كفاية”[ix] وكما يحتاج الناس علم الحديث في جميع معاملات حياتهم الدنيوية من الطعام والشراب والنوم يحتاجونه لحفظ دينهم وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله: ” لولا أهل المحابر، لخطبت الزنادقةُ على المنابر” [x] وقال الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه الحاكم النيسابوري رحمه الله: “لولا كثرة طائفة المحدثين على حفظ الأسانيد لدرس منار الإسلام، ولتمكن أهل الإلحاد والمبتدعة من وضع الأحاديث وقلب الأسانيد” [xi]

وإن تضحيات علماء الحديث انبثقت عن تعظيمهم للحديث النبوي ولحرصهم على نقل كلام النبي صلى الله عليه وسلم والتأسي به وهذا من أكبر علامات المحبة وإن الإنسان يكون يوم الدين مع من أحبه في هذه الدنيا وقد روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:”جاء رجل إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال : يا رسول الله ، متى الساعة ؟ قال : وما أعددت للساعة ؟ قال : حب الله ورسوله ، قال : فإنك مع من أحببت” قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحاً أشد من قول النبي – صلى الله عليه وسلم – فإنك مع من أحببت ، قال أنس : فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر ، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم” [xii] ولا يشك فيه أحد بأن علماء الحديث متصفون بوصف المحبة لله ولرسوله وللأصحاب وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله: ” إذا رأيتُ رجلا من أصحاب الحديث، فكأني رأيت رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم” وقال: “جزاهم الله خيرا فهم حفظوا لنا الأصل، فلهم علينا فضل” [xiii]

وقد علم مما ذكر أعلاه بأن الإشتغال بالحديث هو من أعظم الطاعات وأجل القربات ولذا فإنه يلزم على الطلاب الإعتناء بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وصرف حياتهم في حفظه وفهمه وتعلمه وتعليمه حتى يأتي اليقين.

صور من تضحيات أصحاب الحديث:

لنيل الفضائل الواردة في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحاب الحديث، قام الأعلام من علماء الحديث بمجهودات جبارة وقدموا تضحيات ضخمة في خدمة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبما أن  ذكر تضحيات أصحاب الحديث يوقظ همم المسلمين بالعموم وطلاب الحديث بالخصوص وتلهب قلوبهم بجذوة الإيمان وتشعل حماستهم للدين وتحسن أخلاقهم وتثبت فؤادهم كما قال تعالي: ” وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ” (هود: 120) وقال أول الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي رحمه الله: ” الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحب إليَّ من كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم” [xiv]، نأخذ طرفا من تضحيات بعض المحدثين لكي نحاكيهم ونقتفي آثارهم بإذن الله تعالى.

هشام بن عمار بن نصير بن ميسرة (153 – 245 هـ):

باع والده عمار بيته في دمشق لكي يرسل ولده إلى الحجاز للحصول على العلم النافع حيث كان الحجاز منبع العلم وكان فيه أعلام الحديث مثل الإمام مالك رحمه الله. يقول هشام: فلما صرت إلى المدينة، أتيت مجلس مالك، ومعي مسائل أريد أن أسأله عنها، فأتيته وهو جالس في هيئة الملوك، وغلمان قيام، والناس يسألونه، وهو يجيبهم. فلما انقضى المجلس، قال لي بعض أصحاب الحديث: سل عن ما معك؟ فقلت له: يا أبا عبد الله، ما تقول في كذا وكذا فقال: حصلنا على الصبيان، يا غلام، احمله. فحملني كما يحمل الصبي، وأنا يومئذ غلام مدرك، فضربني بدرة مثل درة المعلمين سبع عشرة درة، فوقفت أبكي. فقال لي: ما يبكيك؟ أوجعتك هذه الدرة؟ قلت: إن أبي باع منزله، ووجه بي أتشرف بك، وبالسماع منك، فضربتني؟ فقال: اكتب. قال: فحدثني سبعة عشر حديثا، وسألته عما كان معي من المسائل، فأجابني. قال يعقوب بن إسحاق الهروي، عن صالح بن محمد الحافظ: سمعت هشام بن عمار يقول: دخلت على مالك، فقلت له: حدثني. فقال: اقرأ. فقلت: لا، بل حدثني. فقال: اقرأ. فلما أكثرت عليه، قال: يا غلام، تعال اذهب بهذا، فاضربه خمسة عشر. فذهب بي، فضربني خمس عشرة درة، ثم جاء بي إليه، فقال: قد ضربته. فقلت له: لم ظلمتني؟ ضربتني خمس عشرة درة بغير جرم، لا أجعلك في حل. فقال مالك: فما كفارته؟ قلت: كفارته أن تحدثني بخمسة عشر حديثا. قال: فحدثني بخمسة عشر حديثا. فقلت له: زد من الضرب، وزد في الحديث. فضحك مالك، وقال: اذهب. [xv] فعندما كبر هذ الغلام عوض الله تعالى  ببيت أبيه حيث اصبح إماما، حافظا، قاضي دمشق، خطيب الجامع الأموي وشيخا للإمام البخاري صاحب “صحيح البخاري” رحمهما الله.

الإمام أحمد بن حنبل (164 – 241 هـ):

هو علم من أعلام أهل السنة وإمام أهل السنة وقدم تضحيات ضخمة في سبيل المحافظة على السنة. وقد ولد في بيت فقير وقد مات أبوه في طفولته ولكن أمه الزاهدة والعابدة صفية بنت ميمونة بنت عبدالملك بن شيبان لم تأل جهدا في تربية الولد اليتيم تربية إسلامية صافية وقد حفظ القرآن بعمر عشر سنوات وعندما بلغ السادسة عشرة من عمره طلبت أمه منه أن يسافر لتحصيل العلم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم بالرغم من أن الإمام كان الإبن الوحيد لها وبالرغم من أنها لم تملك شيئا من المال فصنعت له عشرة أرغفة الشعير ووضعت معها صرة ملح وأعطت الإمام قائلة: “يا بني! إن الله إذا استُودع شيئاً لا يضيعه أبداً، فأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه”. مضى من بغداد على رجليه حتى وصل إلى مكة وأخذ الحديث من علماء أهل مكة ثم سافر إلى اليمن لطلب الحديث من عبد الرزاق بن همام الصنعاني. كان الإمام يعمل في المزارع كأجير للحصول على نفقات السفر عندما انتهت الأرغفة التي أعطتها أمه. وهكذا أصبح الإمام ذو شأن عظيم وإمام أهل السنة حتى قال قتيبة رحمه الله “وإذا رأيت رجلا يحب أحمد، فاعلم أنه صاحب سنة” [xvi]

يحي ابن معين أبو زكريا المري (158 – 233 هـ):

هو الإمام، الجهبد، شيخ المحدثين. خلف أبوه معين ألف ألف درهم لإبنه يحيى بعد وفاته ولكنه أنفق كله في سبيل حصوله على الحديث حتى لم يبق له نعل يلبسه. وبما أنه ضحى ماله في سبيل الحديث، صار إماما في الحديث وذابا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال الإمام أحمد رحمه الله: “ها هنا رجل خلقه الله لهذا الشأن، يظهر كذب الكذابين يعني: ابن معين” [xvii]

عبد الرحمن أبو محمد بن محمد بن إدريس المعروف بإبن أبي حاتم الرازي (240 – 327 هـ) :

كما هو معلوم بأن طلاب الحديث كانوا مثالا وأسوة لولعهم وحبهم بطلب الحديث حيث كانوا لا يهتمون بالأكل والنوم والراحة في سبيل الحديث. يذكر لنا العلامة الحافظ إبن أبي حاتم الرازي قصة رحلته إلى مصر لطب الحديث كيف كرس وقته كله في تعلم وسماع وكتابة الأحاديث حيث يقول: كنا بمصر سبعة أشهر، لم نأكل فيها مرقة، كل نهارنا مقسم لمجالس الشيوخ، وبالليل: النسخ والمقابلة. قال: فأتينا يوما أنا ورفيق لي شيخا، فقالوا: هو عليل، فرأينا في طريقنا سمكة أعجبتنا، فاشتريناه، فلما صرنا إلى البيت، حضر وقت مجلس، فلم يمكنا إصلاحه، ومضينا إلى المجلس، فلم نزل حتى أتى عليه ثلاثة أيام، وكاد أن يتغير، فأكلناه نيئا، لم يكن لنا فراغ أن نعطيه من يشويه. ثم قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد” [xviii]

كان هناك بعض أكابر أئمة العلم والدين من المفسرين والمحدثين والفقهاء الذين وهبوا حياتهم كلها لإزدياد علمهم ولم يتزوجوا لكي يكونوا متفرغين للعلم وخدمة الإسلام والمسلمين فحرموا أنفسهم من متعة الزواج والأولاد وقد أحسن الشيخ عبد الفتاح أبو غدة  رحمه الله ما روى عن شيخه الدكتور عبد الحليم محمود رحمه الله وذلك في كتابه “العلماء العزاب الذين آثروا العلم على الزواج”: “وحب الدعوة وإرادة النهوض بالعالم الإسلامي صرف الكثير من رجال الإصلاح عن الزواج طول حياتهم أوجزءا كبيرا من حياتهم والأمثلة كثيرة على مجرى التاريخ” [xix] نذكر بعضا من هؤلاء المحدثين الذين صبروا على شدائد ومشاق العزوبة وذلك لإزدياد العلم والنهوض بالأمة الإسلامية:

عبد الله إبن أبي نجيح يسار المكي (131 هـ):

كان أحد علماء تابعي التابعين وأحد الثقات حيث وثقه يحي إبن معين وغيره وقد حدث عن مجاهد وطاؤوس وعطاء وغيرهم وقد إحتج به أرباب الصحاح وهو لم يتزوج قط. [xx]

حسين بن علي بن الوليد الجعفي (119-203هـ):

كان حافظا وزاهدا وقدوة وشيخ الإسلام وراهب أهل الكوفة روى عنه أحمد وإسحاق ويحي وإبن الفرات وغيرهم وقد وثقه يحيى بن معين وغيره. وقال حميد بن الربيع: حسين ‌الجعفي كتبنا عنه أكثر من عشرة آلاف حديث. وقال ابن قتيبة قيل لابن عيينة قدم حسين، فوثب وأتى فقبل يده وقال: قدم رجل أفضل رجل يكون قط. [xxi]

بشر بن الحارث بن عبد الرحمن المروزي المشهور بالحافي (152-227هـ):

كان أماما، عالما، زاهدا وقدوة. أخذ عن مالك، وشريك، وحماد بن زيد، وإبراهيم بن سعد، وأبي الأحوص وغيرهم. وحدث عنه أحمد الدورقي، ومحمد بن يوسف الجوهري، ومحمد بن مثنى السمسار – لا العنزي – وسري السقطي، وعمر بن موسى الجلاء، وإبراهيم بن هانئ النيسابوري، وخلق سواهم. قال إبراهيم الحربي: ما أخرجت بغداد أتم عقلا من بشر، ولا أحفظ للسانه، كان في كل شعرة منه عقل، وطئ الناس عقبه خمسين سنة، ما عرف له غيبة لمسلم، ما رأيت أفضل منه. قال أحمد بن حنبل: لو كان بشر تزوج، لتم أمره. [xxii] وسمع الحديث وأسمعه وعدل وجرح ووثق وضعف ثم اعتزل الناس واشتغل بالعبادة ولم يحدث وصار علما من الأعلام في الزهد والعبادة والتقوى والورع. [xxiii]

أبو نصر السجزي عبيد الله بن سعيد بن حاتم البكري (444هـ):

كان إماما وحافظا. حدث عن أحمد بن فراس العبقسي وأبي عبد الله الحاكم وأبي أحمد الفرضي وحمزة المهلبي وحدث عنه أبو إسحاق الحبال وسهل بن بشر الأسفراييني وأبو معشر المقرئ الطبري وإسماعيل بن الحسن العلوي. قال ابن طاهر المقدسي: سألت الحافظ أبا إسحاق الحبال عن أبي نصر السجزي والصوري، أيهما أحفظ؟ فقال: كان السجزي أحفظ من خمسين مثل الصوري؛ ثم قال الحبال: كنت يومًا عند أبي نصر السجزي فدق الباب فقمت ففتحته فدخلت امرأة وأخرجت كيسًا فيه ألف دينار فوضعته بين يدي الشيخ وقالت: أنفقها كما ترى؛ قال: ما المقصود؟ قالت: تتزوجني ولا حاجة لي في الزوج ولكن لأخدمك؛ فأمرها بأخذ الكيس وأن تنصرف؛ فلما انصرفت قال: خرجت من سجستان بنية طلب العلم ومتى تزوجت سقط عني هذا الاسم، وما أوثر على ثواب طلب العلم شيئًا. [xxiv]

يحيى بن شرف النواوي (631-676هـ):

هو الإمام الحافظ شيخ الإسلام علم الأوليا صاحب التصانيف النافعة. سمع من الرضى بن البرهان وشيخ الشيوخ عبد العزيز بن محمد الأنصاري وزين الدين بن عبد الدائم وعماد الدين عبد الكريم بن الحرستاني وزين الدين خالد بن يوسف وغيرهم. قال ابن العطار: ذكر لي شيخنا -رحمه الله تعالى- أنه كان لا يضيع له وقتًا لا في ليل ولا في نهار إلا في اشتغال حتى في الطرق، وأنه دام على هذا ست سنين ثم أخذ في التصنيف والإفادة والنصيحة وقول الحق. قلت: مع ما هو عليه من المجاهدة بنفسه والعمل بدقائق الورع والمراقبة وتصفية النفس من الشوائب ومحقها من أغراضها كان حافظًا للحديث وفنونه ورجاله وصحيحه وعليله رأسًا في معرفة المذهب. من تصانيفه “شرح صحيح مسلم” و”رياض الصالحين” و”الأذكار” و”الأربعين” و”الإرشاد” في علوم الحديث و”التقريب” مختصرة و”كتاب المبهمات” و”تحرير الألفاظ” للتنبيه و”العمدة في تصحيح التنبيه” و”الإيضاح” في المناسك مجلد، وله ثلاثة مناسك سواه و”التبيان” في آداب حملة القرآن، وفتاواه مجموعة في مجيليد و”الروضة” أربعة أسفار و”شرح المهذب” إلى باب المصراة في أربع مجلدات وشرح قطعة من البخاري وقطعة من الوسيط، وعمل قطعة من الأحكام، وجملة كثيرة من الأسماء واللغات، ومسودة في طبقات الفقهاء، ومن التحقيق في الفقه إلى باب صلاة المسافر. لازم الاشتغال والتصنيف ونشر العلم والعبادة والأوراد والصيام والذكر والصبر على العيش الخشن في المأكل والملبس ملازمة كلية لا مزيد عليها ملبسه ثوب خام وعمامته شبختانية صغيرة، تخرج به جماعة من العلما منهم الخطيب صدر الدين سليمان الجعفري وشهاب الدين أحمد بن جعوان وشهاب الدين الأربدي وعلاء الدين بن العطار، وحدث عنه ابن أبي الفتح والمزي وابن العطار. [xxv]

إبن تيمية تقي الدين أبو العباس أحمد ابن شهاب الدين عبد الحليم (661-728هـ):

هو الإمام العلامة الحافظ الناقد الفقيه المجتهد المفسر البارع شيخ الإسلام علم الزهاد نادرة العصر. سمع من ابن عبد الدائم وابن أبي اليسر والكمال بن عبد وابن الصيرفي وابن أبي الخير وخلق كثير، وعني بالحديث ونسخ الأجزاء ودار على الشيوخ وخرج وانتقى وبرع في الرجال وعلل الحديث وفقهه وفي علوم الإسلام وعلم الكلام وغير ذلك. وكان من بحور العلم ومن الأذكياء المعدودين والزهاد الأفراد والشجعان الكبار والكرماء الأجواد، أثنى عليه الموافق والمخالف وسارت بتصانيفه الركبان لعلها ثلاثمائة مجلد. حدث بدمشق ومصر والثغر، وقد امتحن وأوذي مرات وحبس بقلعة مصر والقاهرة والإسكندرية وبقلعة دمشق مرتين، وبها توفي في العشرين من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة في قاعة معتقلًا ثم جهز وأخرج إلى جامع البلد فشهده أمم لا يحصون فحزروا بستين ألفًا ودفن إلى جنب أخيه الإمام شرف الدين عبد الله بمقابر الصوفية، رحمهما الله تعالى. [xxvi]

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين


الهوامش

[i] الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى. (1395). سنن الترمذي، ط2، (رقم الحديث: 2682)  مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي

[ii] البغدادي، أبو بكر أحمد بن علي الخطيب. (1357). الكفاية في علم الرواية، ط1، (2) حيدر آباد، الدكن: جمعية دائرة المعارف العثمانية

[iii] الترمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى. (1395). سنن الترمذي، ط2، (رقم الحديث: 484)  مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي

[iv] ابن حنبل، أحمد. (1421). مسند الإمام أحمد بن حنبل، ط1، (رقم الحديث: 6486)  مؤسسة الرسالة

[v] السجستاني، أبو داؤد سليمان بن داؤد بن الجارود الطيالسي. (1419). مسند أبي داؤد الطيالسي، ط1، (رقم الحديث: 618)  مصر: دار هجر

[vi] العراقي، أبو الفضل زين الدين عبد الرحيم بن الحسين. (1410). المستخرج على المستدرك للحاكم، ط1، (رقم الصفحة: 13)  القاهرة: مكتبة السنة

[vii] الأصبهاني، أبو نعيم أحمد بن عبد الله. (1419). معرفة الصحابة، ط1، (رقم الحديث: 732)  الرياض: دار الوطن للنشر

[viii] الهيثمي، أبو الحسن نور الدين علي بن أبي بكر. (1401). مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ط1، (رقم الحديث: 522)  القاهرة: مكتبة القدسي

[ix] الراجحي، عبد العزيز بن عبد الله (1432). شرح جامع الترمذي،  رقم الصفحة: 6  مكتبة الشاملة

[x] السمعاني، أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور التميمي. (1401). أدب الإملاء والإستملاء، ط1، (رقم الصفحة: 153)  بيروت: دار الكتب العلمية

[xi] القنوجي، أبو الطيب محمد صديق خان بن حسن. (1405). الحطة في ذكر الصحاح الستة، ط1، (رقم الصفحة: 39)  بيروت: دار الكتب العلمية

[xii] القشيري، أبو الحسين مسلم بن الحجاج. (1334). الجامع الصحيح “صحيح مسلم”، ط1، (رقم الحديث: 2639)  تركيا: دار الطباعة العامرة

[xiii] الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد عثمان. (1405). سير أعلام النبلاء، ط3، 69/10))، مؤسسة الرسالة

[xiv] السخاوي، شمس الدين محمد بن عبد الرحمن. (1438). الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التوريخ، ط1، (رقم الصحفة: 147)، الرياض، المملكة العربية السعودية: دار الصميعي للنشر والتوزيع

[xv] الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد عثمان. (1405). سير أعلام النبلاء، ط3،(11/429) مؤسسة الرسالة

[xvi] الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد عثمان. (1405). سير أعلام النبلاء، ط3،(11/195) مؤسسة الرسالة

[xvii] الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد عثمان. (1405). سير أعلام النبلاء، ط3،(11/80) مؤسسة الرسالة

[xviii] الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد عثمان. (1405). سير أعلام النبلاء، ط3،(13/266) مؤسسة الرسالة

[xix] أبو غدة، عبد الفتاح. (1402). العلماء العزاب الذين آثروا العلم على الزواج، ط1، (رقم الصحفة: 21)، بيروت: مكتب المطبوعات الإسلامية

[xx] الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد عثمان. (1405). سير أعلام النبلاء، ط3،(6/125) مؤسسة الرسالة

[xxi] الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد عثمان. (1419). تذكرة الحفاظ، ط1،(1/255). بيروت، لبنان: دار الكتب العلمية

[xxii] الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد عثمان. (1405). سير أعلام النبلاء، ط3،(10/472) مؤسسة الرسالة

[xxiii] أبو غدة، عبد الفتاح. (1402). العلماء العزاب الذين آثروا العلم على الزواج، ط1، (رقم الصحفة: 22-23)، بيروت: مكتب المطبوعات الإسلامية

[xxiv] الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد عثمان. (1419). تذكرة الحفاظ، ط1،(3/211). بيروت، لبنان: دار الكتب العلمية

[xxv] الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد عثمان. (1419). تذكرة الحفاظ، ط1،(4/175). بيروت، لبنان: دار الكتب العلمية

[xxvi] الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد عثمان. (1419). تذكرة الحفاظ، ط1،(4/193). بيروت، لبنان: دار الكتب العلمية

Join our list

Subscribe to our mailing list and get interesting stuff and updates to your email inbox.

Thank you for subscribing.

Something went wrong.

Leave a Reply