الإعداد: محمد هاشم البستوي القاسمي
يجب علينا أن نعرف صورةً إجماليةً عن المجتمع المدني قبل الإسلام، كانت السيادة في مكة المكرمة لقريش، وأغلبهم كانوا على عبادة الأصنام، لكن في المدينة (يثرب) التي اختارها الله تعالى دار هجرة لرسول الله ﷺ، وكان مهداً لأول مجتمع إسلامي بعد الهجرة، وكانت المدينة المنورة ملتقى لعدّة أقوام ديانات، كانت فيها الوثنية واليهودية والنصرانية مع قلّة، وكانت هذه المدينة تُوجَد فيها دياناتٌ وثقافاتٌ ومجتمعاتٌ بخلاف مكة المكرمة.
اليهود في المدينة:
فمن قبائل اليهود القوية بنو نضير، وبنو قريظة، وبنو قينقاع قد ارتادوا منطقه يثرب واستقروا فيها لخصبها وأهمية موقعها التجاري على طرق القوافل إلى الشام.
وعُرِف من أسماء القبائل اليهودية قبل الهجرة أيضًا بنو قينقاع الذين تختلف الآراء في كونهم عربًا تهوّدوا أو أنهم نزحوا مع النازحين إلى الحجاز وهذا الاختلاف يسري على البطون الأخرى من يهود التي تسميها المصادر العربية ومنهم: بنو عكرمة، وبنو محمر، وبنو زعورا، وبنو الشطيبة، وبنو جشم، وبنو بهدل، وبْنو عوف، وبنو معاوية، وبنو مريد، وبنو القصيص، وبنو ثعلبة[1].
لقد ذُكِرت أعداد المقاتلين في كتب السيرة -وهم عادة الرجال البالغون- من كل قبيلة وهم سبعمائة من بني قينقاع، ومثلهم تقريبًا من بني النضير، وما بين سبعمائة وتسعمائة من بني قريظة[2]. فالمقاتلون من يهود من القبائل الثلاث يزيدون قليلًا على الألفين، هذا سوى بقية بطون يهود الأخرى الأقل أهميةً والتي تسكن في أماكن متناثرة من يثرب أيضًا حيث يذكر السمهودي أنها تزيد على العشرين بطنًا[3]. لكن من قبائل اليهود من الثلاثة الكبرى التي ذكرناهم يسكنون في حصون خاصة بها، وكانوا معروفين بكثرة المال والتجارة والتعامل بالربا[4]. وكانت اليهود يتقنون الربا في كل مكان، وكان المجتمع المدني خاضعاً لسيطرة اليهود قبل أن يقوي كيان العرب فيه خضوعًا تامًا اقتصاديًا وسياسيًا وفكريًا.
ومنذ أن بشّر نبي الله موسى عليه السلام اليهودَ في وعظه بأن الله تعالى يخلق من إخوة موسى نبياً مثل موسى كانت اليهود تنتظر أن يكون ظهور هذا النبي منهم، وهاجروا إلى المدينة المنورة، وأقاموا فيها على أَمَلِ أن هذا النبي يكون من بني إسماعيل يُزِيل الذُّلَ القوميَّ لليهود، يُعيدُ لهم مجدَهم وعزتهم وبأسهم وحكمهم، ومنذ أن طُرِدتْ اليهود من الشام وضُرِبَتْ عليهم الذلّةُ والمسكنةُ كانوا في انتظار هذا النبي الموعود، وكانوا يعيشون في أحياء وقُرى مختلفة خاصة بهم، وكانت لهم حصون وآطام، ولم يتمكّنوا من إنشاء حكومات يحكمها اليهود، بل كانوا مستقلّين في حماية سادات القبائل ورؤسائها، كان لكلّ زعيم يهوديّ حليف من الأعراب ومن رؤساء العرب[5]. وقد بلغوا غاية الإسفاف والتدنّي في الأخلاق، وبراعة اليهود في فنون السّحر والكهانة من الحقائق المسلّمة في التاريخ.
العرب:
وقد سكن الأوس والخزرج يثرب التي سبقهم إليها يهودُ وتَمَلَّكوا أخصبَ بِقاعها وأعذب مياهها، وكان الأوس والخزرج مضطرِّين إلى سكنى الأراضي المهجورة، فسكن الأوس منطقةَ العوالي بجوار قريظة والنضير، وسكن الخزرج سافلة المدينةَ حيث جاوروا بني قينقاع، وكانت ديارُ الأوس أخصبَ من ديار الخزرج مما كان له أثر في المنافسة والصراع بين الطرفين[6]، ولا يوجد إحصاء لعدد الأوس والخزرج ولكن القبيلتين قدمتا أربعة آلاف مقاتل للجيش الإسلامي الذي ذهب لفتح مكة سنة ثمان من الهجرة[7].
وإن اليهود حاولوا لإثارة الشقاق وتفتيت وحدة العرب من الأوس والخزرج وأفلحوا في إذكاء العداوة وقيام الحروب بين الجانبين، وآخر ذلك يوم بعاث[8] قبل الهجرة بخمس سنوات ولجأت الأوس إلى محالفة يهود النضير وقريظة فغلبتهم في بعاث، ولكنهم فهموا أن يريدون استعادة سيطرتهم على يثرب، لذلك سعوا إلى المصالحة بينهم، واتفق الجانبان على ترشيح رجل من الخزرج هو عبد الله بن أبي بن سلول الذي وقف مع أهله على الحياد في “بعاث” ليكون مَلِكاً على يثرب مما يدلّ على تمكن العرب من المحافظة على قوّتهم وتفوّقهم على يهود بعد يوم بعاث.
ولا شك أن وقائع أيام العرب بين الأوس والخزرج ولّدت شعوراً برغبة قوية بهدوء وسلام، وهذا الشعور كان يرافق استقبال يثرب للإسلام حاملاً معه بشائر التآخي والسلام، وقد عبّرَتْ السيدةُ عائشة رضي الله عنها عن أثر الحروب والمنازعات في إقبال أهل المدينة على الإسلام بقولها: كان يوم بعاث يوماً قدمه الله لرسوله ﷺ، فقدم رسول الله ﷺ، وقد افترق ملؤهم وقُتِلت سرواتهم وجُرِحوا، قدمه الله لرسوله ﷺ في دخولهم الإسلام[9].
مصالح المدينة والنبي الموعود:
منذ أن بشّر عيسى المسيح في آخر موعظته بمجيء نبي آخر الزمان، وأوصى أتباعه باتّباع أمره، وكانت النصارى أيضاً في انتظار نبي آخر الزمان ﷺ، لكنهم لماّ رأوا أن هذا النبي يردّ على النصارى في أمورهم المصطنعة مثل الأبنية والتثليث والكفارة وسلطة البابا صاروا أيضاً من أعدائه.
كما ذكرنا أن الأوس والخزرج أرادوا أن يختاروا عبد الله بن أبي بن سلول مَلِكاً، فأنه دخل في الإسلام تظاهراً منه، وكان يدَّعي أمام غيره أنه معهم، كذلك يتخذ طريق التودد إلى المسلمين لأنه يرى أن الإسلام قد خيّب آماله، وكان يسعى بهذا الأسلوب إلى إيذاء المسلمين، لهذا سُمّيت هذه الطائفة المنفقين.
هذا الوضع المعقد الذي واجهه الرسول ﷺ في المدينة، لا شك أن مكة أكبر مدينة من المدينة المنورة يثرب نسبياً، ولكنّ الحياة والقضايا التي واجهها رسول الله ﷺكانت متنوّعة، لوجود ديانات وبيئات وثقافات مختلفة، لكن الله أيّد رسوله أعطاه الحكمة وفصل الخطاب، وقوّة الجمع بين الأنماط البشرية الكثيرة، والقوى المتصارعة، بارك الله محيةً منه، وبحمد الله تحقق النجاح للنبي ﷺ بنشر الإسلام في المدينة المنورة نجاحاً كاملاً، قال الله تعالى:
{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) } [الأنفال: 62 – 64]
الهوامش
[1] وفاء الوفاء للسمهودي (1/112-116).
[2] سيرة ابن هشام (2/428).
[3] انظر وفاء الفاء (1/112).
[4] انظر رحمة للعالمين للمنصور فوري (1/101).
[5] انظر المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (7/23).
[6] مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول لأحمد إبراهيم الشريف (ص: 337-340).
[7] مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول (ص: 348).
[8] انظر الكامل لابن أثير (1/660 -680).
[9] انظر صحيح البخاري (3777).
Join our list
Subscribe to our mailing list and get interesting stuff and updates to your email inbox.