رسائل الرسول

رسائل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء

الإعداد: محمد هاشم البستوي القاسمي

لما استقر الأمر بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية وجد الفرصة لتوسيع نطاق الدعوة إلى الإسلام داخل الجزيرة العربية وخارجها، فأرسل الرسل إلى ملوك العرب والعجم، وكتب معهم إليهم كتبًا يدعوهم فيها إلى الإسلام وإلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة، واهتمّ اهتمامًا كبيرًا، فاختار لكلّ واحد منهم رسولاً يليق به، ويعرف لغته وبلاده، حيث أرسل النبي صلى الله عليه وسلم دحية بن خليفة الكلبي إلى قيصر، وعبدالله بن حذافة السهمي إلى كسرى، وعمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك الحبشة، وحاطب بن أبي بلتعة اللخمي إلى المقوقس حاكم مصر، والعلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي، وسليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن علي الحنفي ملك اليمامة، والحارث بن عمير الأزدي إلى أمير بصرى، وشجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني أمير دمشق، وعمرو بن العاص إلى جيفر وعبد ابني الجلندي ملكي عمان.

ولما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على مكاتبة الملوك والأمراء خرج على أصحابه ذات يوم فقال: ;أيها الناس، إن الله قد بعثني رحمة وكافة، فلا تختلفوا علي كما اختلف الحواريون على عيسى ابن مريم: فقال أصحابه: وكيف اختلف الحواريون يا رسول الله؟ قال: ;دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه، فأما من بعثه مبعثًا قريبًا فرضي وسلّم، وأما من بعثه مبعثًا بعيدًا فكره وجهه وتثاقل:، فأجابه أصحابه إلى ما أراد، وقيل له صلى الله عليه وسلم: إنهم لا يقبلون كتاباً إلا عليه خاتم، فاتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً من فضة نقشه (محمد رسول الله).

كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قيصر (هرقل):

وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية بن خليفة الكلبي بكتاب إلى قيصر، وأمره أن يدفعه إلى حاكم (بُصرى) وهو الحارث بن أبي شمر ملك غسان[1] ليوصله إلى هرقل، ونص الكتاب:

 “بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى أما بعد، فإن أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن تولّيت فإن عليك إثم الإرّيسيين:

﴿قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ، أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 64].

موقف هرقل من الكتاب:

ولما وصل الكتاب إلى هرقل وكان الرجل عاقلاً قال: ائتوني برجل من قومه أسأله عنه، فالتمسوه، فصادفوا أبا سفيان في ركب من قومه ذاهبين بتجارتهم إلى الشام بعد صلح الحديبية، فجاؤوا بهم إليه، فسألهم بوساطة ترجمانه أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: أنا، فقال له: ادن مني، فأجلسه أمامه، ثم أجلس بقية قومه خلفه حتى لا يخجلوا من ردّ كذبه عليه إذا كذب. ثم سأله عن نسبه، وهل ادّعى ذلك أحد قبله، وعن مبلغ صدقه؟ وهل كان من آبائه من ملك؟ وأيتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ وأيزيدون أم ينقصون؟ وهل يرتد أحد من أتباعه سخطة لدينه؟ وهل يغدر إذا عاهد؟ وكيف حربكم وحربه؟ وبم يأمركم؟ كل ذلك وأبو سفيان يجيب بما هو الحق.

ثم استخلص هرقل الحق من كلام أبي سفيان فقال له: إني سألتك عن نسبه فزعمت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب من قومها.

وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله؟ فزعمت أن لا، فلو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يأتم بقول قيل قبله. وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا، فقلت: ما كان ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك هل كان من آبائه ملك؟ فقلت: لا، فلو كان من آبائه ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فقلت: بل يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك أيرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك هل قاتلتموه؟ فقلت: نعم، وأن الحرب بيننا وبينه سجال، وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة، وسألتك بماذا يأمر؟ فزعمت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عما كان يعبد آباؤكم، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، والوفاء بالعهد وأداء الأمانة.

ثم قال: وهذه صفة نبي كنت أعلم أنه نبي، ولكن لم أعلم أنه منكم، وإن يك ما قلت حقًّا فيوشك أن يملك موضع قدميّ هاتين، ولو أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت قدميه.

ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرئ على الحاضرين، فعلت أصوات من حوله من عظماء الروم وكثر لغطهم، وأمر بأبي سفيان وأصحابه فأخرجوا، فقال أبو سفيان: لقد عظم أمر ابن أبي كبشة[2]، هذا ملك بني الأصفر[3] يخافه، فما زلت موقنًا أنه سيظهر حتى أدخل الله عليّ الإسلام.

ولما سار قيصر إلى حمص وأذن لعظماء الروم في دسكرة له، ثم أمر بأبوابها فأغلقت، ثم قال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم، فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها مغلقة، فلما رأى قيصر نفرتهم وغضبهم قال: ردّوهم علي، ثم قال لهم: إنما قلت مقالتي آنفًا أختبر بها شدتكم على دينكم، فسجدوا له ورضوا عنه[4]. وهكذا غلبه حب ملكه على الإسلام، فذهب بإثمه وإثم رعيته كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكنه مع هذا كرّم دحية ورده ردًّا جميلاً.

وأخرج البيهقي في الدلائل عن الشافعي قال: وحفظنا أن قيصر أكرم كتاب النبي صلى الله عليه وسلم ووضعه في مسك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “ثبت ملكه”[5].

كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى مَلِكِ الفُرْس:

ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة السّهمي بكتاب إلى كسرى[6] ملك الفرس، وأمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين المنذر بن ساوى، ليدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، ونص الكتاب:

 “بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاء الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فإن تسلم تسلم، وإن أبيت فإن إثم المجوس عليك”.

فلما قرىء الكتاب عليه مزقه، فلما بلغ رسول الله ذلك دعا عليه قائلا: ;اللهم مزّق ملكه:، وقد استجاب الله لنبيه، فقتله ابنه شيرويه، ولم تقف حماقة كسرى عند تمزيق الكتاب بل أرسل إلى ;باذان: عامله على اليمن: أن ابعث إلى هذا الرجل الذى خالف دين قومه، فمره فليرجع إلى دين قومه، فإن أبى فابعث إلى برأسه، وإلا فليواعدك يوما تقتتلون فيه، فلما ورد كتابه إلى باذان، بعث بكتابه مع رجلين من عنده، فلما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزلهما وأمرهما بالمقام فأقاما أياما، ثم أرسل إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة، فقال: ;انطلقا إلى باذان فأعلماه أن ربى عزوجل قد قتل كسرى فى هذه الليلة:[7]، وكان ذلك ليلة الثلاثاء لعشر مضين من جمادى الاخرة سنة سبع من الهجرة، فخرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى قدما على باذان فأخبراه بمقتل كسرى، وقالا له يقول لك: إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك، وملكتك على قومك من الأبناء.

ثم لم ينشب باذان أن جاءه كتاب شيرويه يخبره بقتل أبيه، وأوصاه أن لا يهيج النبي حتى يأتيه أمره فيه، فقال: إن هذا الرجل لرسول، فأسلم باذان وأسلم الأبناء من فارس الذين كانوا باليمن.[8]

كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ملك الحبشة:

النجاشي لقب لكل من ملك الحبشة، وهذا النجاشي اسمه أصحمة، وبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري، وكتب معه إليه كتابين يأمره في أحدهما: أن يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب، وأن يبعث إليه بمن عنده من المسلمين، وفي الكتاب الآخر يدعوه إلى الإسلام.

أما كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي فهذا نصه:

“بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني أنا رسوله، فأسلم تسلم:

﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾.

فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك:.

ولما وصله الكتاب وقرئ عليه أخذه فوضعه على عينه، ونزل عن سريره فجلس على الأرض تواضعًا، ثم أسلم وشهد شهادة الحق، وقال: أَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَّهُ الَّذِي بَشَّرَ بِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَلَوْلَا مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْمُلْكِ، لَأَتَيْتُهُ حَتَّى أَحْمِلَ نَعْلَيْهِ.

ثم كتب النجاشى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم:

بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله، من النجاشي الأصحم بن أبجر سلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته، من الله الذي لا إله إلا هو، الذي هداني إلى الإسلام أما بعد، فقد بلغني كتابك يا رسول الله فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت ثفروقًا، إنه كما قلت، وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قرينا ابن عمك وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله صادقًا مصدقًا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين، وقد بعثت إليك بابني أرها بن الأصحم بن أبجر، فإني لا أملك إلا نفسي، وإن شئت أن آتيك فعلت يا رسول الله، فإني أشهد أن ما تقول حق، والسلام عليك يا رسول الله.

قال ابن إسحاق: وذكر لي أن النجاشي بعث ابنه في ستين من الحبشه في سفينه، فإذ كانوا في وسط من البحر غرقت بهم سفينتهم، فهلكوا.

وكان من بين من هاجروا إلى الحبشة أم حبيبة (أخت معاوية) وكان قد توفي زوجها، لذا أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ليزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، ويبعث بها إليه مع من عنده من المسلمين، فأرسل النجاشي إلى أم حبيبة يخبرها بخطبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها جارية له يقال لها أبرهة، فأعطتها أوضاحًا لها وفتخًا، سرورًا بذلك، وأمرها أن توكل من يزوجها، فوكلت خالد بن سعيد بن العاص، فزوجها، فخطب النجاشي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخطب خالد فأنكح أم حبيبة، ثم دعا النجاشى بأربعمائة دينار صداقها، فدفعها إلى خالد بن سعيد، فلما جاءت أم حبيبة تلك الدنانير، قال: جاءت بها أبرهة فأعطتها خمسين مثقالاً، وقالت: كنت أعطيتك ذلك، وليس بيدي شيء، وقد جاء الله عز وجل بهذا، فقالت أبرهة: قد أمرني الملك أن لا آخذ منك شيئًا، وأن أرد إليك الذي أخذت منك، فرددته وأنا صاحبة دهن الملك وثيابه، وقد صدقت محمدًا رسول الله وآمنت به، وحاجتي إليك أن تقرئيه مني السلام.

قالت: نعم، وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من عود وعنبر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عليها وعندها فلا ينكره، قالت أم حبيبة: فخرجنا في سفينتين، وبعث معنا النواتي حتى قدمنا الجار، ثم ركبنا الظهر إلى المدينة، فوجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فخرج من خرج إليه، وأقمت بالمدينة حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت إليه، فكان يسائلني عن النجاشي، وقرأت عليه من أبرهة السلام، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، ولما جاء أبا سفيان تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبه قال: ذلك الفحل لا يقدع أنفه.[9]

كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس عظيم مصر:

ولما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم رسله إلى الملوك، بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية وعظيم مصر وأميرها من قبل الروم بكتاب ونصه:

“بسم الله الرحمن الرحيم، من محمدٍ عبد الله ورسوله، إلى المقوقس عظيم القبط، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد:

فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإنما عليك إثم القبط:

﴿يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾:.

فوفد حاطب على المقوقس وكان بمدينة الإسكندرية، فناوله الكتاب، فقبّله وأكرم حاطبا وأحسن نزله.

ثم بعث إليه وقد جمع بطارقته، فقال: إني سائلك عن كلام، وأحب أن تفهمه مني، قال: قلت: هلمّ، قال: أخبرني عن صاحبك أليس هو نبي؟ قلت: بلى، هو رسول الله، قال: فما له حيث كان هكذا لم يدع على قومه حيث أخرجوه من بلده إلى غيرها؟! قال: فقلت: ألست تشهد أن عيسى ابن مريم رسول الله؟ قال: بلى، قلت: فما له حيث أخذه قومه فأرادوا أن يصلبوه ألا يكون دعا عليهم بأن يهلكهم الله حيث رفعه الله إلى السماء الدنيا؟! فسر منه وقال له: أنت حكيم قد جاء من عند حكيم[10]، ثم قال: إني نظرت في أمر هذا النبي فوجدت أنه لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال، ولا الكاهن الكذاب، وسأنظر، ثم كتب ردّ الخطاب، فقال فيه:

(لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد: فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيًّا قد بقي، وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت لك بجاريتين لهما مكان عظيم في القبط، وبثياب، وأهديت إليك بغلة تركبها والسلام).

ولم يزد المقوقس على هذا، ولم يسلم، ورجع حاطب t إلى المدينة وذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم قول المقوقس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ضن الخبيث بملكه، ولا بقاء لملكه:، وقبل هديته، وأخذ الجاريتين وهما مارية وأختها سيرين.

وإحدى الجاريتين مارية التي تسرّاها رسول الله وولدت له إبراهيم، والأخرى أعطاها حسان بن ثابت، فولدت له عبد الرحمن بن حسان، وقيل أربع جوار، ومما أهدي غلام خصي اسمه ;مابور: وحمار أسمي عفيرا أو يعفور، وقد أسمى النبي البغلة دلدلا، وكانت فريدة ببياضها بين البغال التي عرفتها بلاد العرب. ونفق الحمار منصرفه من حجة الوداع، وبقيت البغلة إلى زمان معاوية t.[11]

كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوى:

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي فأسلم فحسن إسلامه ثم هلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ردة أهل البحرين، والعلاء عنده أميرًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين. وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا يدعوه فيه إلى الإسلام، فكتب المنذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد، يا رسول الله، فإني قرأت كتابك على أهل البحرين، فمنهم من أحب الإسلام وأعجبه ودخل فيه، ومنهم من كرهه، وبأرضي مجوس ويهود، فأحدث إلي في ذلك أمرك.

فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم:

“بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى المنذر ابن ساوى، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد، فإنى أذكرك الله عز وجل فإنه من ينصح فإنما ينصح لنفسه، وإنه من يطع رسلي ويتبع أمرهم فقد أطاعني، ومن نصح لهم فقد نصح لي، وإن رسلي قد أثنوا عليك خيرًا، وإني قد شفعتك في قومك، فاترك للمسلمين ما أسلموا عليه، وعفوت عن أهل الذنوب فاقبل منهم، وإنك مهما تصلح فلن نعزلك عن عملك، ومن أقام على يهودية أو مجوسية فعليه الجزية”.[12]

مخاطبة العلاء للمنذر:

لما قدم العلاء بن الحضرمي على المنذر بن ساوى قال له: ;يا منذر إنك عظيم العقل في الدنيا، فلا تصغرن عن الآخرة، إن هذه المجوسية شر دين ليس فيها تكرم العرب، ولا علم أهل الكتاب، ينكحون ما يستحيا من نكاحه ويأكلون ما يتكرم على أكله ويعبدون في الدنيا نارا تأكلهم يوم القيامة، ولست بعديم عقل ولا رأي فانظر هل ينبغي لمن لا يكذب أن لا تصدقه، ولمن لا يخون أن لا تأمنه، ولمن لا يخلف أن لا تثق به، فإن كان هذا هكذا، فهو هذا النبي الأمي الذي والله لا يستطيع ذو عقل أن يقول: ليت ما أمر به نهى عنه أو ما نهى عنه أمر به أو ليت زاد في عفوه أو نقص من عقابه إن كان ذلك منه على أمنية أهل العقل وفكر أهل البصر:.

فقال المنذر: قد نظرت في هذه الأمر الذي في يدي، فوجدته للدنيا دون الآخرة، ونظرت في دينكم فوجدته للآخرة والدنيا، فما يمنعني من قبول دين فيه أمنية الحياة وراحة الموت ولقد عجبت أمس ممن يقبله وعجبت اليوم ممن يرده وإن من إعظام من جاء به أن يعظم رسوله، وسأنظر.[13]

كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هوذة بن علي ملك اليمامة:

ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم سليط بن عمرو العامري بكتاب إلى هوذة بن علي ملك اليمامة يدعوه إلى الإسلام، ووعده أن يجعل له ما تحت يديه إن أسلم، ونص الكتاب:

“بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هوذة بن علي، سلام على من اتبع الهدى، واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر، فأسلم تسلم، وأجعل لك ما تحت يديك”.

فلما قدم عليه سليط بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مختومًا أنزله وحيّاه واقترأ عليه الكتاب، فرد ردًّا دون ردٍّ، وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، وأنا شاعر قومي وخطيبهم، والعرب تهاب مكاني، فاجعل إلي بعض الأمر أتبعك، وأجاز سليطًا بجائزة، وكساه أثوابًا من نسج هجر، فقدم بذلك كله على النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم كتابه فقال: ;لو سألني سيابة[14] من الأرض ما فعلت، باد وباد ما في يديه:.

فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفتح، جاءه جبريل عليه السلام: بأن هوذة قد مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ;أما إن اليمامة سيخرج بها كذاب يتنبأ يقتل بعدي:، فقال قائل: يا رسول الله من يقتله؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أنت وأصحابك: فكان كذلك.[15]

وذكر الواقدي أن أركون دمشق عظيم من عظماء النصارى كان عنده هوذة، فسأله عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: جاءني كتابه يدعوني إلى الإسلام، فلم أجبه، فقال الأركون: لم لا تجيبه؟ قال: ضننت بديني وأنا ملك قومي، وإن تبعته لم أملك، قال: بلى والله، لئن تبعته ليملكنك، وإن الخير لك في اتباعه، وإنه للنبي العربي الذي بشر به عيسى ابن مريم، وإنه لمكتوب عندنا في الإنجيل، محمد رسول الله، وذكر باقي الخبر.[16]

كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن عمير الأزدي أمير بصرى:

وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير الأزدي بكتاب إلى أمير بصرى، فلما بلغ مؤتة -قرية بمشارف الشام- تعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني، قال له: أين تريد؟ قال: الشام. قال: لعلك من رسل محمد؟ قال: نعم، فأمر به فضربت عنقه، ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسول  غيره، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر فاشتد عليه.[17]

كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحارث بن أبي شمر أمير دمشق:

ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب الأسدي بكتاب إلى الحارث بن أبي شمر الغساني أمير دمشق من قبل هرقل، يدعوه إلى الإسلام، ونص الكتاب:

“بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى الحارث بن أبى شمر، سلام على من اتبع الهدى وآمن به وصدق، وإنى أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له، يبق لك ملكك”.

فلما قرأ الكتاب رمى به، وقال: من ينتزع مني ملكي؟ أنا سائر إليه، ولو كان باليمن جئته، علي بالناس فلم يزل يعرض حتى الليل وأمر بالخيول تنعل، ثم قال: أخبر صاحبك بما ترى، وكتب إلى قيصر يخبره خبري وما عزم عليه، فكتب إليه قيصر أن لا تسر إليه والْه عنه وائتنى بايلياء، فلما جاء جواب كتابه دعاني فقال: متى تريد أن تخرج إلى صاحبك؟ فقلت: غدا فأمرني بمائة مثقال ذهبا، ووصّلني حاجبه بنفقة وكسوة وقال: اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام، فقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: ;باد ملكه:، وأقرأته من حاجبه السلام وأخبرته بما قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق، ومات الحارث بن أبي شمر عام الفتح.[18]

كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى جيفر وعبد ابني الجلندي ملكي عمان:

وبعث رسول الله  عمرو بن العاص إلى جيفر وعبد ابني الجلندي، وكتب معه كتابًا يدعوهما فيه إلى الإسلام، ووعدهما أن يجعل لهما ما تحت يديهما إن أسلما، ونص الكتاب:

“بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله، إلى جيفر وعبد ابني الجلندي، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوكما بداعية الإسلام أسلما تسلما، فإني رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيًّا، ويحق القول على الكافرين، وإنكما إن أقررتما بالإسلام وليتكما، وإن أبيتما أن تقرّا بالإسلام، فإن ملككما زائل عنكما، وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما”.

وكتبه أبي بن كعب، وختم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب.

قال عمرو بن العاص: فخرجت حتى انتهيت إلى عمان، فقدمت على عبد، وكان أسهل الرجلين، فقلت له: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليك، وإلى أخيك، فقال: أخي المقدم علي بالسن والملك، أنا أوصلك إليه، فيقرأ كتابك، ثم سألني أين كان إسلامي؟ فقلت له: عند النجاشي، وأخبرته أن النجاشي أسلم، فقال: ما أظن أن هرقل عرف بإسلامه، قلت: بلى، قال: من أين لك؟ قلت: كان النجاشي يخرج خرجا، فلما أسلم، قال: والله لو سألني درهما واحدًا ما أعطيته، فلما بلغ ذلك هرقل، قيل له: أتدع عبدك لا يخرج لك خرجا، ويدين دينا محدثا؟ فقال: وما الذي أصنع؟ رجل رغب في دين، واختاره لنفسه، والله لولا الضن بملكي، لصنعت مثل الذي صنع، فقال: انظر يا عمرو ما تقول، إنه ليس من خصلة في الرجل أفضح له من الكذب، فقلت له: والله ما كذبت، وإنه لحرام في ديننا، فقال: وما الذي يدعو إليه؟ قلت: يدعو إلى الله وحده، لا شريك له، ويأمر بطاعة الله، والبر وصلة الرحم، وينهى عن المعصية، وعن الظلم والعدوان، وعن الزنا، وشرب الخمر، وعبادة الحجر والوثن، والصليب، فقال: ما أحسن هذا، لو كان أخي يتابعني، لركبنا إليه حتى نؤمن به، ولكن أخي أضن بملكه، من أن يدعه، قلت: إنه إن أسلم ملكه رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، قال: ثم أخبر أخاه بخبري، فدعاني، فدخلت عليه، ودفعت إليه الكتاب، ففضه، وقرأه، ثم دفعه إلى أخيه، فقرأه مثله، إلا أن أخاه أرق منه، وقال لي: ما صنعت قريش؟ قلت: ما منهم أحد إلا وأسلم إما راغبًا في الإسلام، وإما مقهورًا بالسيف، وقد دخل الناس في الإسلام، وعرفوا بعقولهم مع هداية الله أنهم كانوا في ضلال، وإني لا أعلم أحدًا بقي غيرك، وأنت إن لم تسلم، توطئك الخيل، وتبيد خضراءك، فأسلم تسلم، قال: دعني يومًا هذا، قال: فلما خلا به أخوه، قال: ما الذي نحن فيه؟ وقد ظهر أمر هذا الرجل، وكل من أرسل إليه أجابه؟ قال: فلما أصبح أرسل إلي، وأجاب هو وأخوه إلى الإسلام جميعًا، وخليا بيني وبين الصدقة، والحكم فيما بينهم، وكانا لي عونا إلى من خالفني، انتهى[19].

رسائل أخرى:

وكذلك كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبلة بن الأيهم الغساني، وإلى الحارث بن عبد كلال الحميري ملك اليمن، وإلى مسيلمة الكذاب، وإلى غيرهم من الملوك والأمراء، فمنهم من أجاب وأسلم، ومنهم من رد ردا سيئا. ذكرها ابن طولون مفصلاً في ;إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين:، والقسطلاني في ;المواهب: وغيرهما.


الهوامش

[1] والذي حمل الكتاب من عند الحارث إلى قيصر هو عدي بن حاتم، ;فتح الباري: (1/291).

[2] قيل: هو كنية أبيه من الرضاعة، واسمه الحارث بن عبد العزى، كانوا ينسبونه إليه استهزاء.

[3] بنو الأصفر: الروم.

[4] صحيح البخاري، باب بدء الوحي (رقم: 7) وكتاب الجهاد- باب دعاء النبي الناس إلى الإسلام (2941).

[5] دلائل النبوة: للبيهقي (4/393).

[6] كسرى لقب لكل ملك الفرس، وهو كسرى بن برويز بن هرمز بن أنو شروان.

[7] انظر: ;الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم والثلاثة الخلفاء: (2/ 11).

[8] انظر: اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المامون (3/369).

[9] انظر: تاريخ الطبري (2/ 652-654).

[10] انظر: البداية والنهاية (4/272).

[11] انظر: المصباح المضي في كتاب النبي الأمي ورسله إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي (2/118).

[12] انظر: عيون الأثر: (2/ 334)، والاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم والثلاثة الخلفاء (2/ 16).

[13] انظر: الروض الأنف (7/ 515).

[14] أي: قطعة.

[15] انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد: (3/ 607)، وتاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس: (2/ 39)، وسبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (11/ 357)، ونصب الراية (4/ 425).

[16] إعلام السائلين عن كتب سيد المرسلين لابن طولون (ص: 111).

[17] انظر: الطبقات الكبرى: (4/ 343) وإمتاع الأسماع (13/ 360)، و;السيرة الحلبية: (3/96).

[18] انظر: الطبقات الكبرى (1/ 200) والمصباح المضي في كتاب النبي الأمي ورسله إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي (2/ 262).

[19] نصب الراية: (4/ 423).

Join our list

Subscribe to our mailing list and get interesting stuff and updates to your email inbox.

Thank you for subscribing.

Something went wrong.

Leave a Reply