الحرم المدني وتوسعته من زمن الرسول إلى العصر العثماني

بناء المسجد النبوي:

بعد ما قام رسول الله ﷺ بالمدينة المنورة كان أول أمر الذي قام به هو بناء بيت الله، إذ كان رجال المسلمين يصلّون في المكان الذي بركت فيه ناقة رسول الله ﷺ، وكان هذا المكان مِرْبداً للتمر لسُهَيل وسهْل غلامين يتيمين من بني النجار في حجر أسعد بن زرارة، قال رسول الله ﷺ حين بركت به راحلته: “هذا إن شاء الله المنزل”. ثم دعا رسول الله ﷺ الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجداً، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله ﷺ أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما ثم بناه مسجداً.[1]

وفي رواية أخرى في الصحيحين[2] أنه صلى الله عليه وسلم عندما أمر ببناء المسجد، أرسل إلى ملأ بني النجار، فجاؤوا، فقال لهم: “يا بني النجار، ثامنوني  بحائطكم  هذا”.فقالوا: لا والله، لا نطلب ثمنه إلا إلى الله. والظاهر أنهم لم يأخذوا الثمن. وذكر ابن سعد في طبقاته[3] أنه صلى الله عليه وسلم اشتراه منهما بعشرة دنانير أخذهما من أبي بكر الصديق رضي الله عنه. قال الحافظ في “الفتح”: ولا منافاة بينهما، فيجمع بأنهم لما قالوا لا نطلب ثمنه إلا إلى الله، سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عمن يختص بملكه منهم فعيّنوا له الغلامين فابتاعه منهما، فحينئذ يحتمل أن يكون الذين قالوا له لا نطلب ثمنه إلا إلى الله تحملوا عنه للغلامين بالثمن.

وفي رواية أخرى للبخاري[4]: أن مكان المسجد كانت فيه قبور المشركين، وكانت فيه خَرِبٌ، وكان فيه نخل. فأمر رسول الله ﷺ بقبور المشركين فَنُبِشَتْ، وبالخرب فسُوِيت، وبالنخل فقُطِع، فصفوا النخلة قبلة المسجد، وجعلوا عِضَادَتَيهِ حجارةً، وجعلوا ينقلون تلك الصخرة، وطفق رسول الله ﷺ ينقل معهم اللبن لبنيانه، ويقول وهو ينقله:

هذا الحِمالُ[5] لا حمالُ خيبر

       هذا   أبَرُّ[6]   ربَّنا   وأطهر

ويقول:

اللهم إن الأجرَ أجر الآخرة      فارحم الأنصار والمهاجرة[7].

وفي رواية: أنهم كانوا ينقلون الصخرة ويرتجزون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، يقولون:

اللهم إنه لا خير إلا خير الآخره فانصر الأنصار والمهاجره[8].

        كان هذا المسجد يدلّ على بساطة الإسلام إذ بنيت جدرانه بالطوب النيء، وأَعْمِدَتُه من جذوع النخل، سقفه من الجذوع والجريد[9]. وطوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، والجانبان مثل ذلك أو دونه[10].واستغرق بناء المسجد النبوي اثني عشر يوما[11].واتُّخِذَ بيت المقدس قبلة،وجعل للمسجد ثلاثة أبواب: باب الرحمة ويُقال له باب عاتكة في جهة الغرب، وباب عثمانفي جهة الشرق، ويُسمى الآن باب جبريل الذي كان يدخل منه النبي ﷺ[12].

لماّ كانت الأرض نيئةً تتحوَّلُ أرضه وحلاً من المطر. ذات مرّة حينما حضر أصحاب رسول الله ﷺ للصلاة في المسجد ومعهم حصوات من الأحجار لكي يفرشوها حيث يجلسون، لذا رأى النبي ﷺ أنه من الأفضل أن يُجَسّس المسجد بالحصاة.وهكذا كانت المساجد في عهده ﷺ تمتاز بالبساطة وعدم التكلّف، ولكنها كانت عامرة بالإيمان والهدى، والعلم والمعرفة.

الحاصل: أن النبي ﷺأسّس المسجد في شهر ربيع الأول في السنة الأولى من الهجرة الموافق 622م، وكان طوله يومئذٍ ما يقارب 35 متراً، وعرضه 30 متراً، فتكون مساحته 1050 متراً مربعاً، وكان سقفه بارتفاع 2.5 متر تقريباً[13].

توسعة المسجد في عهد النبي ﷺ:

ضاق المسجد النبوي بالمصلين بعد عودة الرسول من غزوة خيبر في السنة السابعة للهجرة، الموافق 628م، بسبب ازدياد أعداد المسلمين في المدينة،فتمت توسعته من جهة الشرق والغرب والشمال بزيادة 40 ذراعاً في العرض، و30 ذراعاً في الطول، فأصبح شكل المسجد مربعاً، وصارت مساحته 2500 متراً مربعاً، وكان عثمان بن عفان هو من اشترى هذه الأرض[14].

توسعة المسجد في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

وبعد ذلك وسَّعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عام 17هـ، الموافق 638مبسبب كثرة عدد المسلمين نتيجةً للفتوحات الإسلامية واتساع رقعة الدولة الإسلامية، وكانت أول توسعة للمسجدالنبوي منذ بنائه وتوسعته في عهد النبي ﷺ، حيث أن أبا بكر الصديق^ لم يُضِفْ على مساحة المسجد شيئاً، فقد انشغل أبو بكر بالأحداث التي نتجت عن وفاة الرسولﷺ، غير أنه جَدَّدَ الأعمدةَ النخليةَ التي نخرت. فأضاف عمررضي الله عنه ثلاثة أبواب أخرى: باب النساء، وباب الرحمة، وباب السلام، وأصبحت مساحة المسجد 3575 متراً مربعاً[15].

توسعة المسجد في عهد عثمان رضي الله عنه:

لم تعد الزيادة التي بناها عمر بن الخطاب تسع المصلين والزوار، فقام عثمان بن عفان ^بتوسعة المسجد النبوي في شهر ربيع الأول سنة29هـ الموافق 649م،واشترى الدور المحيطة به من الجهات الشمالية والغربية والجنوبية، أما الجهة الشرقية فلم يقربها؛ لوجود حجرات زوجات النبي صلى الله عليه وسلم فيها،وبناه من الحجارة المنقوشة والجص، وجعل أعمدته من الحجارة المنقوشة، وغُطّي سقفه بخشب الساج[16]، وانتهى عمل البناء في أول شهر محرم سنة 30 هـ، وهو^يباشر عمل البناء ويشرف عليه بنفسه[17]. وأصبحت مساحة المسجد الآن 4071 متراً مربعاً.

توسعة المسجد في عهد الأموي:

قال السمهودي في “خلاصة الوفاء[18]“: نقل رزين أن المسجد بعد أن زاد فيه عثمانُ لم يزد فيه عليٌّ ولا معاويةُ$ ولا يزيدُ ولا مروان ولا ابنُه عبدُ الملك شيئاً حتى جاء زمن الوليد بن عبد الملكفأمر عَامِلَه على المدينة المنورة عمرَ بن عبد العزيز بعمارة المسجد وتوسعته، فبدأ العمل عام 88هـ/707م وانتهى سنة 91هـ/710م، وبلغت مساحة المسجد 6440 متراً مربعاً، وبُنِيَتْ المآذنُ الأربعُ في أركان المسجد، وأنشئ المحراب المجوف، وأدخلت حجرات أمهات المؤمنين في المسجد بحيث لم تكن واحدة منهن على قيد الحياة[19]. وزُخْرِفت جُدرانُ المسجد من الداخل بالرخام والذهب والفسيفساء[20]، وفُتِحَ عشرين باباً للمسجد.

توسعة المسجد في العهد العباسي:

لم يزل المسجد على حال ما زاد فيه الوليد بن عبد الملك حتى ولي أبو جعفر المنصور أمر الخلافة في الدولة العباسية، فهمّ أن يزيد بالمسجد، فتُوفي ولم يزد فيه شيئاً. ثم ولي أمر الخلافة أبو عبد الله محمد المهدي، فقام بزيارة المدينة المنورة أثناء الحجّ سنة 160هـالموافق 778م، وأمر بالزيادة فيه، فزاد فيه 30 متراً من الناحية الشمالية، ولم يزد في القبلة ولا في المشرق والمغرب شيئاً[21]. واستمر العمل في البناء أربع سنوات من عام 161 هـ الموافق 779، إلى عام 165 هـ الموافق 782.[22]وزاد عدد أبواب المسجد فصارت أربعة وعشرين باباً:ثمانية في الجهة الشرقية، وثمانية في الجهة الغربية، وأربعة في الجهة الشمالية، وأربعة في الجهة الجنوبية، وتوسّعت مساحة المسجد إلى 8890 متراً مربعاً.

واستمرت عناية الخلفاء العباسيين بالمسجد النبوي، وقاموا بالعناية به وتجديده، ولم تظهر الحاجة لتوسعته أو إعادة بنائه إلى أن احترق المسجد الحريق الأول سنة 654 هـ الموافق 1256م[23].

بعد ذلك أمر الخليفة العباسي المستعصم بالله بإعادة إعمار المسجد سنة 655 هـ الموافق 1257، ولما شرعوا في العمارة قصدوا إزالة ما وقع من السقوف على القبور في الحجرة، فلم يتجرأوا على ذلك، وانتظروا جواب الخليفة المستعصم، فلم يصل إليهم جواب لاشتغال الخليفة وأهل دولته بسبب غزو التتار لهم، واستيلائهم على بغداد في تلك السنة، فتركوا الرَّدمَ على ما كان عليه، ولم ينزل أحد هناك، ولم يتعرضوا له ولا حركوه، إلا أنهم بنوا سقفاً فوقه على رؤوس السواري التي حول الحجرة الشريفة[24].

توسعة المسجد في عهد المماليك:

بعد نهاية الخلافة العباسية بمقتل الخليفة المستعصم بالله على يد التتار سنة 656 هـ، انتقل أمر العناية بالمدينة المنورة إلى الدولة المملوكية في مصر، فلم يزل ملوكها يهتمون بعمارة هذا المسجد الشريف وتجديدها إلى أن وصل أمر المدينة إلى السلطان قايتباي أحدالسلاطين المملوكيين، واحترق المسجد النبوي الحريق الثاني عام 886 هـ الموافق 1481م في ليلة 13 رمضان[25]،فقام بعدها السلطان قايتباي بعمارة شاملة للمسجد، إذ أرسل المئات من البنّائين والنجّارين والحَجّارين والنحّاتين والحدّادين، وأرسل الأموال الكثيرة والآلات والحمير والجمال، وذلك لِتَتِمَّ عمارةُ المسجد على أحسن ما يكون، فزادوا في الجانب الشرقي قدر 1.2 متراً، وعملوا سقفاً واحداً للمسجد بارتفاع 11 متراً، وقام ببناء القبة الخضراء وبناها بدلاً من القبة الزرقاء التي الموجودة قبل الحريق فوق الحجرة النبوية، وأعادوا ترخيم الحجرة النبوية وما حولها وترخيم الجدار القبلي، وعملوا المنبر ودكة المؤذنين من رخام، وعملوا قبّة على المحراب العثماني، كما أقاموا قبتين أمام باب السلام من الداخل، وقد كسيت هذه القباب بالرخام الأبيض والأسود.وانتهت هذه العمارة في أواخر رمضان سنة 888 هـ الموافق 1483م[26]، وصارت مساحة المسجد 9010 متراً مربعاً.

توسعة المسجد في  العهد العثماني:

العثمانيون كان لهم اهتمام بارز بالمسجد النبوي، وأسهموا في إصلاحه وترميمه، ففي عهد السلطان سليمان القانوني، تم إصلاح القبة الشريفة، ووضعوا عليها هلالاً جديداً عام 974هـ، واستبدل بالأهلة المملوكية التي كانت تعلو القبة الخضراء ومآذن المسجد أهلة من النحاس المطلي بالذهب، وفي عام 1228هـ جدد السلطان محمود الثاني العثماني القبة الشريفة، ودهنها باللون الأخضر، فأصبحت تعرف بالقبة الخضراء، بعدما عرفت بالبيضاء أو الفيحاء.

وأمر السلطان عبد المجيد خان عام 1277 هـ، بإصلاح المسجد وترميمه، بعدما ظهرت عليه شقوق، فأصبحت مساحته الكلية 10303 أمتار مربعة، وارتفعت الجدران إلى 11 متراً، وزيد 5 أبواب، و5 مآذن يتراوح ارتفاعها بين 47.50 و60 متراً، وبلغ عدد الأعمدة 327 عموداً، وبلغت القباب 170 قبة، بالإضافة إلى كتاتيب لتعليم القرآن الكريم، و600 مصباح زيتي، بحسب “موسوعة الجزيرة”

 


الحواشي

[1]صحيح البخاري (3906)، وفتح الباري (7/239).

[2]انظر صحيح البخاري (3932) وصحيح مسلم (524).

[3]الطبقات الكبرى (1/115).

[4]صحيح البخاري (3932).

[5]المحمول من اللبن.

[6]أبقى ذخراً وأكثر ثواباً.

[7]صحيح البخاري (3906)، وفتح الباري (7/245-247) وعمدة القاري (17/42).

[8]صحيح البخاري (3932).

[9]انظر صحيح البخاري (446، 3585).

[10]انظر طبقات ابن سعد (1/184).

[11]انظر دلائل النبوة للبيهقي برواية عبد الله بن الزبير.

[12]المواهب اللدنية (1/189).

[13]انظر طبقات ابن سعد (1/184).

[14]انظر سنن الترمذي (3703).

[15]انظر صحيح البخاري (446)، وفاء الوفاء (2/67).

[16]صحيح البخاري (446). والساج: خشب يجلب من الهند، والساج: شجر عظيم جداً ويذهب طولاً وعرضاً. (لسان العرب: 6/419).

[17]انظر وفاء الوفاء (2/82).

[18]خلاصة الوفاء بأخبار دار المصطفى (2/105).

[19]وفاء الوفاء (2/266).

[20]خلاصة الوفاء (2/113)، والدرة الثمينة في أخبار المدينة (ص: 113). والفسيفساء: قطع صغيرة من الرخام وغيره يتألف بعضها إلى بعض، وتركب في حيطان البيوت من داخل كأنه نقش مصور. والفسفس: البيت المصور بالفسيفساء. لسان العرب: (6/164)

[21]وفاء الوفاء (2/191-192)، والدرة الثمينة في أخبار المدينة (ص: 116).

[22]المدينة المنورة تطورها العمراني وتراثها المعماري (ص: 75-79).

[23]انظر وفاء الوفاء (2/371).

[24]وفاء الوفاء (2/375-376).

[25]انظر وفاء الوفاء (2/413).

[26]انظر وفاء الوفاء (2/417-426).

Join our list

Subscribe to our mailing list and get interesting stuff and updates to your email inbox.

Thank you for subscribing.

Something went wrong.

Leave a Reply