القرآن الكريم والمعراج

القرآن الكريم والمعراج

القرآن الكريم والمعراج

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى  آله وأصحابه أجمعين أما بعد:

لا شك أن وقعة المعراج لها أهمية كبيرة في التاريخ الإسلامي، وقد كتبنا حولها مقالة مستقلة باسم “قصة الإسراء والمعراج”،  وحينما كنت أطالع كتب السيرة لجمع المواد وقع نظري على  كتاب “رحمة للعالمين” للشيخ سليمان المنصورفوري، ورأيت فيه عنوان: القرآن الكريم والمعراج، فوجدته بحثاً مفيداً للقارئين، وأردت أن أنشرها في موقعي: “آن لائن إسلام” فإليكم هذه المقالة من غير تغيير وتبديل:

ذكر القرآن الكريم واقعة المعراج في سورتين:

1 – الأولى: سورة بني إسرائيل وجاء في بدايتها قوله تعالى:

{سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير} (الإسراء: 1).

إن كلمة ((سبحان)) تستعمل للتنزيه، وأتى بها في بداية الكلام للدلالة على أن الوقائع التي ذكرت بعدها لا تعجز قدرة الله تعالى عن إحداثها وإيجادها، وتنوين ((ليلا))

يدل على الجزء القليل من الليل.

وقوله ((باركنا حوله)) يبين أن قرب ذلك المكان تكثر الأشجار المثمرة والأنهار الجارية وشجرة الزيتون المباركة. وكان ما حوله مهبط وحي كثير من الأنبياء ومصدر معجزاتهم الباهرة.

ويراد بقوله ((من آياتنا)) الآثار المرضية التي تردد قصة كرامة وعز بني إسرائيل ومهانتهم وذلهم.

وتدخل فيها الآيات التي رآها النبي (ص) بعد عروجه من المسجد الأقصى في ملكوت السماوات والأرض.

2 – الثانية: سورة النجم، انظروا إلى الآيات التالية:

الف – {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} (النجم: 18).

فسرت ((الآيات الكبرى)) برؤية النبي (ص) جبريل في صورته الأصلية، أو الأنوار القدسية التي غشيت سدرة المنتهى في صورة التجلي، أو الجنة والنار بهيئة وجودهما، أو عجائب الملكوت بتفاصيلها، ولكن كل ذلك جميعا أقل مما دلت عليه الكبرى، ولذا يصعب حصرها وتفصيلها.

ب – {ما زاغ البصر وما طغى} (النجم: 17).

تبين هذه الآية تطلع النبي (ص) إلى الرؤية، وكذا مراعاته لحسن الأدب، وثباته

ورزانته وتحمله واستعداده للرؤية.

وذكر القرآن الكريم في حال موسى:

{فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا} (الأعراف: 143).

والنبي (ص) رأى تلك الأنوار رؤية تامة دون أن يزيغ بصره ويطغى؛ إن القوة الربانية متجلية في أعظم تجليها والبصر المحمدي رهن المشاهدة بكامل قوته.

ج – {ما كذب الفؤاد ما رأى} (النجم: 11).

في معظم الأوقات نرى أن العين السليمة المبصرة ترى شيئا، والفؤاد يكذب ما رأته، ومثال ذلك أننا نرى كل صباح أن الشمس تطلع مثل صحن مذهب من المشرق، ويبدو حجمه أصغر بملايين المرات من حجم الكرة الأرضية. ولكن الفؤاد يقول: هذا الزعم خداع البصر، فالشمس أكبر من الأرض بملايين المرات، وليس في ذلك شك.

ونرى الأشياء الساقطة على الأرض فتبدو بارزة، ولكن الحقيقة أن ذلك من خداع البصر.

ونرى ضوء الشمس فنحسبه أبيض نقيا، ولكن الفؤاد يخبر بأنه مجموعة مكونة من سبعة ألوان.

وما دام هذا الاختلاف موجودا بين العين والقلب، فمن الخطأ أن نظن أن العين تبصر الحقيقة الأصلية.

ولكن لو اجتمع يقين البصر والفؤاد وثقتهما على أصل الحقائق وحقيقة الانكشافات فلاشك أن هذا المشهد يزيد البصر والبصيرة والله تعالى يريد أن يعرف الناس معرفة حقة أن رؤية النبي (ص) بعيدة عن جميع الظنون والشكوك، ومتملكة لجميع الحقائق والصدق.

د – {فأوحى إلى عبده ما أوحى} (النجم: 10).

إن الآية السابقة ذكرت كيفية البصر والفؤاد، وهذه الآية تذكر حقائق السمع والقلب. إن قوله: ما أوحى ليس للإجمال بل للتفخيم، ويراد به تفخيم الوحي، ومن يوحى إليه أيضا، وتكمن عظمته الأصلية في كلمة ((عبد)) وكذا تبرز وتتجلى.

ولاشك أن حادث المعراج واحد من منازل النبي (ص) العليا، وقد استعمل الله

تعالى كلمة ((العبد)) في ذكر هذا الحادث في السورتين، حتى يتأكد الناس تماما أن أعلى منزلة لخير خلق الله نبيه محمد (ص) هي منزلة العبدية، وأمرنا جميعا بأن نتقدم في تلك المنزلة كل حسب كفاءته وصلاحيته {ليعبدوا الله مخلصين له الدين} (البينة: 5). ومعنى: ((الصلاة معراج المؤمنين)) أيضا يتضح بهذه النكتة، لأنه ليس هناك شيء أقوى وأكبر من الصلاة لإظهار العبودية وبيان العجز والافتقار وإبراز التعبد والابتهال لله عز وجل.

مبحث اليقظة والمنام: رأى بعض العلماء أن الآية الكريمة {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس} (الإسراء: 60) تشير إلى المعراج، والتعبير عنه بالرؤيا يدل على أن وقائع المعراج حدثت في المنام.

وقد حل هذا الإشكال إمام اللغة ابن دحية حيث قال: إن الرؤية والرؤيا يستعملان بمعنى واحد، يقول أهل اللغة: رأيت رؤية ورؤيا، مثل قربة وقربى. وبذلك زال الوهم بأن الرؤيا تستعمل للمنام وحده.

وقال الزمخشري [1] (وهو من أئمة اللغة والمعاني والبيان) في تفسيره ((الكشاف)) تحت هذه الآية: إن هذه الرؤيا تختص بوقعة بدر حيث دل النبي (ص) على مصرع كل كافر، والكفار كانوا يستهزءون بقوله (ص) هذا. ثم أورد بلفظ ((قيل)) ما يأتي: إنما سماها رؤيا على قول المكذبين حيث قالوا له لعلها [أي حادثة المعراج] رؤيا رأيتها وخيال خيل إليك.

ومثال ذلك في الآيات التالية:

1 – {فراغ إلى آلهتهم} (الصافات: 91).

2 – {أين شركائي} (النحل: 27).

3 – {ذق إنك أنت العزيز الكريم} (الدخان: 49).

ولنستمع الآن إلى المحدثين، أورد الإمام البخاري في كتاب التفسير من صحيحه تحت الآية {وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس} (الإسراء: 60) عن عكرمة عن ابن عباس: هي رؤيا عين أريها رسول الله (ص) ليلة أسرى به.[2]

إن ابن عباس خير هذه الأمة وخير من فسر القرآن بدعاء النبي (ص)، وإنه كذلك من أئمة اللغة والأدب الكبار، ومن قوله:

((أؤمن بأن معراج النبي (ص) كان في اليقظة وبجسمه)).

وهذا هو معتقد أكثر أئمة أهل السنة من المحدثين وفقهاء الصحابة والتابعين.

ومن استمر بعد الدليل الواضح على الزعم بأن الإسراء كان في المنام فعليه أن يتأمل الحديث التالي:

عن الشيخين عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله (ص):

((لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس قمت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه)).[3]

والظاهر أن النبي (ص) لو حكى واقعة الإسراء في صورة المنام لما تسنى للكفار السؤال عن آيات بيت القدس، ولما كانت هناك حاجة إلى أن يجلي الله بيت المقدس للنبي (ص)، وأن يرد النبي (ص) على أسئلتهم بالنظر إليه. بل كفاه أن يفحمهم بأنه يحكي ما رآه في المنام، وسبحان الذي أرى عبده آياته الكبرى وذهب به إلى ما وراء الآفاق.

(مأخوذ من كتاب رحمة للعالمين (من ص: 716 إلى 719)


الهوامش

[1]   تفسير الكشاف 1/ 533.

[2]  صحيح البخاري (4716).

[3]  صحيح البخاري (3886) صحيح مسلم (170).

Join our list

Subscribe to our mailing list and get interesting stuff and updates to your email inbox.

Thank you for subscribing.

Something went wrong.

Leave a Reply