المؤاخاة بين المهاجرين والانصار

المؤاخاة بين المهاجرين والانصار، مؤاخاة المهاجرين

الإعداد: محمد هاشم البستوي القاسمي

لماَّ قدم المهاجرون من مكة إلى المدينة لم يكن في أيدي معظمهم شيء لأنهم تركوا أموالهم وكانوا قد خرجوا خفية من الكفار، ومع أن منازل الأنصار مكاناً عاماً لاستضافة المهاجرين وأعطتهم الأنصار كل ما يستطيعونه من النخل والأرض ليعملوا فيها بنصف ثمارها، وكان ذلك الفعل من الأنصار دليلاً على مدى حُبِّهِم وإيثارهم المهاجرين، وقد شهد الله تعالى ذلك في قوله:

﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9].

وعلى الرغم من هذا الإيثار فقد أراد رسول الله ﷺ أن يوجد تشريعاً يعالج للمهاجرين أوضاعهم الاقتصادية، ويشعرهم بأنهم ليسوا عالةً على إخوانهم الأنصار، وأيضاً أن المهاجرين يفضِّلون العيش على الهدايا والصدقات، بل كانوا متعوِّدين على كسب أرزاقهم، لهذا رأى النبي ﷺ أن يؤاخي بين المهاجرين والأنصار.

المؤاخاة في مكة

ويعتبر البلاذري (ت 276) أقدم من أشار إلى المؤاخاة المكية، وقد تابعه في ذلك ابن عبد البر (ت 463) دون أن يصرح بالنقل عنه، كذلك تابعهما ابن سيد الناس[1]، وقد ذهب الحافظ ابن القيم وابن كثير إلى عدم وقوع المؤاخاة بمكة[2].

لم تشر كتب السيرة الأولى إلى وقوع المؤاخاة بمكة، أما رواية البلاذري فهي بدون إسناد، وهو ضعيف أيضاً عند نقاد الحديث، لو صح وقوع هذه المؤاخاة بمكة فإنها تقتصر على المؤازرة والنصيحة بين المتآخيين دون أن تترتب عليها حقوق التوارث[3].

المؤاخاة في المدينة

أما المؤاخاة الذي وقعت بعد بناء المسجد النبوي بين المهاجرين والأنصار فقد استدعى رسول الله ﷺالأنصار فاجتمع الناس في بيت أنس بن مالك ^، والذي كان في العاشرة من عمره آنذك، وكان عدد المهاجرين45 مسلماً[4]، وخاطب النبي ﷺ الأنصار، وآخى في الله أخوين أخوين، ويقول لهما: إنك وهذا أخوان، وصارت الأخوة رباطهم، فأخذ الأنصاريُ المهاجر إلى بيته، وأطلعه على كل شيء، ووضّع ماله نصفاً لنفسه ونصفاً لأخيه المهاجر. وكان سعد بن الربيع وعبد الرحمن بن عوف أخوان، وكان لسعد زوجتان، فقال لعبد الرحمن: أطلق إحداهما وتزوجها أنت، لكن عبد الرحمن رفض هذا[5].

وأصبحت هذه القرابة قرابة حقيقية واقعية بالمعنى الصحيح، فكان إذا مات الأنصاري فيأخذ المهاجر تركته وماله بقول الله تعالى:

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الخ [الأنفال: 72].

ونزلت الآية حين لم تكن حاجة لمساعدة المهاجرين بعد غزوة بدر: ﴿وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ﴾ [الأنفال: 75]، فصار التوارث منسوخاً، وبقيت النصرة والنصيحة بين المسلمين[6].

وقد بَيّنَ حِبرُ المفسرين عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عند قوله تعالى:

﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ﴾

إلى ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا﴾ [النساء: 33]، إنه قال: ورثة. و﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ من النصر والرفادة والنصيحة، وقد ذهب الميراث ويوصي له[7].

إيثار الأنصار

وبدأ تنفيذ هذا التشريع منذ ذلك الوقت، وفي سنة 4 من الهجرة حين نُفِيَ بنو النضير وملك المسلمون أراضيهم ومزارع نخلهم طلب النبي ﷺ الأنصار وأشار عليهم بأن المهاجرون مفلسون، وعرض عليهم هل يرضى الأنصار أن يأخذ المهاجرون وحدهم هذه الأرض الجديدة، ويسترد الأنصار مزارع نخلهم؟

فأجاب الأنصار: لا، بل أَبْقِ مزارع نخلنا في أيدي إخواننا المهاجرين، وأعطهم المزارع الجديدة أيضاً.[8]

ستفتخر الدنيا مدى الدهر بإيثار الأنصار هذا، لكن انظر ماذا فعل المهاجرون بإخوانهم الأنصار؟ قد قرأت حينما عرض سعد بن الربيع على عبد الرحمن بن عوف ماذا قال عبد الرحمن بن عوف ^: بارك الله في أهلك ومالك، دُلَّني فقط على السوق، فدلّه على سوق قينقاع المشهور، فاشترى قليلاً السمن والجبن، وظلَّ يبيع ويشتري حتى المساء، وفي أيام قليلة جمع ثروةً تَمَكَّنَ بها على الزواج، فرآه النبي ﷺ بعد أيام وعليه وضر من صفرة، فقال النبي ﷺ «مهيم يا عبد الرحمن؟» قال: يا رسول الله، تزوجت امرأة من الأنصار قال: «فما سقت فيها؟» فقال: وزن نواة من ذهب، فقال النبي ﷺ: «أولم ولو بشاة»[9].

وازدهرت تجارته تدريجياً، وكان يقول: إذا وضعتُ يدي على التراب فيكون ذهباً، وكانت أموالُه التجارية تُحمَلُ على سبع مائة جمل، وتَحْدُثُ ضجةٌ كبيرةٌ في المدينة كلها يوم تصل تجارتُه إليها[10].

قد فتح بعض الصحابة محلات تجارية، وكان لأبي بكر مصنع في السنح حيث كان يشتغل بتجارة الأقمشة[11]، وكان عثمان بن عفان ^ بتجارة البلح في سوق بني قينقاع[12]، كما عمل عمر بالتجارة أيضاً[13]، وقد اتسع تجارته إلى إيران[14].

وكان هناك صحابة آخرون بدؤوا بالاشتغال بتجارات صغيرة. ورد في صحيح البخاري[15] إنما انتقد الناس على أبي هريرة بسبب كثرة رواياته أمام غيره من الصحابة، فردّ عليهم أبو هريرة وقال: ما ذنبي في هذا؟ إذا كان الناس يتاجرون في الأسواق وأما أنا فكنت دائماً في مجلس النبي ﷺ ليلا ونهاراً، لما فتح الله خيبر ردَّ المهاجرون كُلُّهُم مزارع النخيل والمنائح إلى الأنصار[16].

إن الأنصار أعطوا المهاجرين الأراضي الملحقة ببيوتهم لبناء بيوت المهاجرين، ومن لم يكن له أرض أعطي للمهاجرين جزءاً من البيوت المسكونة، وأول من أعطى الأرض المهاجر هو الحارث بن النعمان، وقد سكن بنو زهرة خلف المسجد النبوي، وقد بنى عبد الرحمن بن عوف حصناً هناك (والتي من المناسب أن يقال لها: قلعة صغيرة) وحصل للزبير بن العوام أرض وسيعة، وأعطى الأنصار أراضي جنب بيوتهم لعثمان، ومقداد وعبيد[17].

بعضُ أسماء المهاجرين والأنصار الذين آخى بينهم ﷺ

أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وخارجة بن زهير، عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك، أبو عبيدة بن عبد الله بن الجراح، وسعد بن معاذ، عبد الرحمن ابن عوف، وسعد ابن الربيع، الزبير بن العوام، وسلامة ابن سلامة بن وقش،عثمان بن عفان، وأوس بن ثابت، طلحة بن عبيد الله، وكعب بن مالك، وسعيد بن زيد وأبي ابن كعب، مصعب بن عمير وأبو أيوب خالد بن زيد، أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعباد بن بشر بن وقش، عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان، أبو ذر الغفاري والمنذر بن عمرو، حاطب بن أبي بلتعة وعويم بن ساعدة، سلمان الفارسي وأبو الدرداء، بلال مؤذن رسول الله ﷺ وأبو رُويحة عبد الله بن عبد الرحمن الخثعمي[18].

وإن كانت صلة المؤاخاة قد حدثت لحاجة عارضة في الظاهر، لكنها كانت هي تسكيناً للمهاجرين لعدة أيّام، لكن في الواقع أن هذا الأمر صار لأغراض عظيمة للعمل على تربية الأفراد تربيةً ربّانية، وإعداد القيادة الربّانية، ومحاربة أسباب الفرقة، والأخذ بأصول الوحدة والاتحاد. إن الأخوّة في الله من أهم الأسباب على الصمود في الوجه أشد المحن التي تندر بالمسلمين.

المؤاخاة بين المسلمين أسباب إتمام الفضائل

إن المجتمع الإسلامي المدني قام على أساس تهذيب الأخلاق، إتمام الفضائل، وكان بحاجة إلى وزراء وقادة جيش، وأناس ذوي كفاءة عالية، قد كان وُجِدَ فريق يتصف بهذه الكفاءة من بين المهاجرين ببركة شرف الصحبة وكانوا بمثابة من المعلمين يتخرَّج من حلقات دروسهم أناسٌ ذوو استعداد وتربية، حينما تقرّر الإخاء بين المهاجرين والأنصار روعِيَ فيه ضرورة وجود توافق في المزاج بين الأستاذ والتلميذ، وهو أمرٌ ضروريٌ للتربية والتعليم، ويبدو ذلك جلياً بعد الاستقصاء والفحص والتمحيص في الرجلين آخى بينهما رسول الله ﷺ. وإذا قيل كيف يمكن في مدّة قليلة معرفة مزاج صحيح بمئات من الناس؟ فلا بُدَّ من التسليم هنا بأن هذا كان من خصائص شأن النبوة.

كان سعيد بن زيد أحد العشرة المبشَّرة بالجنة، وكان والده زيد قد اتّبع ملّة إبراهيم عليه السلام قبل بعثة النبي ﷺ، كأنه في مقدِّمة جيش الإسلام، وكان سعيد تربَّى في حِضْنه، لذا آمن بالإسلام بمجرّد سماعه به كما آمنتْ أمُّه معه أو قبله بقليل، إن عمر بن الخطاب مال في بيته أو بترغيبه إلى الإسلام، إنه من فضلاء الصحابة في العلم والفضل، ومؤاخاته مع أبي بن كعب مَنْ حصل على هذه الرتبة العالية، لقَّبه عمر بلقب سيد المسلمين، وكان هو أوّل من فاض بمنصب كاتب في حضرة النبوة، وسُلِّمَ بأنه إمام في فنِّ القراءة[19].

كان أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة زعيم كبير من زعماء قريش لهذه المناسبة آخى بينه وبين عبّاد بن بشر زعيم قبيلة أشهل.

أبو عبيدة الجرّاح أمين هذه الأمة لقَّبَه النبي ﷺ كانت فيه كفاءة ليكون فاتح الشام كان هو يضحِّي بكلّ ما هو نفيسٌ وعزيزٌ في سبيل الإسلام، لهذا حين واجهه أبوه في غزوة بدر كان قد راعى حقّ الأبوّة لكنه في النهاية اضْطُرَّ إلى التضحيَّةِ بالأب في سبيل الإسلام، وآخى بينه وبين سعد بن معاذ رضي الله عنهما والذي كان شيخ قبيلة أوس الأكبر، وكان يبدو فيه أيضاً صفة التضحِيَّة الإيثار، وإنه كان حليفاً لبني قريظة، والمعروف في العرب بأن صلة الحليف يساوي صلةَ الأخوّة والأبوَّةِ، ولكنه ضحّى بأربع مائة حليف حينما دارت المعركة بين بني قريظة.

كذلك تُوجَد تلك التوافق بين بلال وبين أبي رُوَيحة، وبين سلمان الفارسي وبين أبي الدرداء، وبين عمار بن ياسر وبين حذيفة بن اليمان، وبين وصعب بن عمير وبين أبي أيوب الأنصاري، بسبب هذه العلاقة يتأثر الأستاذ من التلميذ أحياناً.

وما أدّى الأنصار حقّ الضيافة للمهاجرين ومساعدتهم أياهم أمرٌ لا مثيل له في  تاريخ العالم، وحينما تمَّ فتحُ البحرين طلب النبي ﷺ الأنصار وقال: “أنا أريد أن أُقطِعَ لكم البحرين”، فقال الأنصار: لا، إلا أن تُقطِعَ لإخواننا المهاجرين مثلها[20].

ذات مرّة أتى رجلٌ فقير إلى النبي ﷺ ، فقال: يا رسول الله! أصابني الجوع، فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله ﷺ: «من يضم أو يضيف هذا»، فقال أبو طلحة: أنا، فانطلق به إلى امرأته، فقال: أكرمي ضيف رسول الله ﷺ ، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني، فقال أبو طلحة: هيئي طعامك، وأطفيئ سراجك، ونَوِّمي صبيانك إذا أرادوا عشاءً، فهيأتْ طعامها، وأصبحتْ سراجها، ونَوَّمتْ صبيانَها، ثم قامت كأنها تُصلِح سراجها فأطفأته، فجعلا يُرِيَانِه أنهما يأكلان، باتا طاويين، وفيهما نزل قوله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9]. [21]

وكان هذا الإخاءُ أساساً لإخاء إسلاميّ عالميّ فريد من نوعه، ومقدمة لنهضة أمة ذاتِ دعوة ورسالة، تنطلق لصياغة عالم جديد، قائم على عقائد صحيحة معيّنة، وأهداف صالحة منقذة للعالم من الشّقاء والتناحر والانتحار، وعلى علاقات جديدة من الإيمان والإخاء المعنويّ والعمل المشترك، وكان هذا الإخاء المحدود بين المهاجرين والأنصار طليعة وشريطة لاستئناف حياة جديدة للعالم والإنسانية.[22]


الهوامش

[1] انظر السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/240).

[2] انظر زاد المعاد (2/69).

[3] السيرة النبوية الصحيحة (1/241).

[4] انظر عيون الأثر (1/231).

[5] انظر صحيح البخاري (3780)، وفتح الباري  (7/210).

[6] السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/ 246).

[7] صحيح البخاري (4580).

[8] صحيح البخاري (….).

[9] صحيح البخاري (3937).

[10] انظر أسد الغابة (3/475).

[11] طبقات ابن سعد (3/130).

[12] انظر مسند أحمد (1/561).

[13] مسند أحمد (4/40).

[14] مسند أحمد (3/347).

[15] صحيح البخاري (2350).

[16] انظر صحيح مسلم (1771).

[17] معجم البلدان ().

[18] انظر السيرة النبوية لأبن هشام (1/504-506).

[19] انظر الإصابة (1/181).

[20] انظر صحيح البخاري (2376).

[21] صحيح البخاري (3798)، وفتح الباري (14/271، 272).

[22] السيرة النبوية لأبي الحسن علي الندوي (ص: 282).

Join our list

Subscribe to our mailing list and get interesting stuff and updates to your email inbox.

Thank you for subscribing.

Something went wrong.

Leave a Reply