المدينة المنورة إشعاع للعلم

المدينة المنورة إشعاع للعلم، ومركز تخريج الأئمة

الأستاذ الدكتور مصطفى الأعظمي رحمه الله

كان العلامة الشيخ محمد مصطفى اﻷعظمي (ت: 2/ربيع الآخر 1439هـ الموافق 20 ديسمبر 2017م ) أحد أهم علماء الحديث النبوي الشريف في هذا العصر، وأبرز المتخصصين فيه، لاسيما في مجال الدفاع عن السنة، وردّ اﻷباطيل والشبهات المثارة حولها بلغة علمية رصينة. وغياب أمثال هؤلاء الراسخين خسارةٌ فادحةٌ للعلم وأهله، ونسأل الله أن يُعوِّضَ اﻷمة بأمثاله من العلماء المتفرغين الذين بذلوا حياتهم للعلم. ولا شك أن للأستاذ الأعظمي إنتاجاتٌ ودراساتٌ في علم الحديث الشريف، وقد انفرد ببعضها، ومن إنتاجاته: كتاب “الموطأ للإمام مالك” قد حقق هذا الكتاب بالمقارنة بعدة نُسَخ من المخطوطات والمطبوعات، ثم قام بدراسة سيرة الإمام مالك وكتابه دراسةً دقيقةً كاملةً واسعةً. قد طُبِعَ هذا الكتابُ في سبع مجلّدات على نفقة مؤسسة زايد بن سلطان آل نهيان للأعمال الخيرية والإنسانية بأبو ظبي. وأخذنا ما كتب في باب التمهيد عنوان: “المدينة المنورة إشعاع للعلم”.

قال تعالى:

{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 40].

ولذا أصبحت رسالته خالدة إلى يوم القيامة، شاملة الإنس والجن، محيطة بالعالمين.

وقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول فترة رسالته بمكة المكرمة، يدعو الناس إلى الإسلام، ويلاقي كل العنت والأذى في سبيله، وكان يربي الجيل الذي كان قد قُدّر له أن يغير مجرى التاريخ في العالم بإخلاصه لله، وباتباع كتاب ربه، وسنة نبيه. وقد أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة المنورة، وتبعه أصحابه الميامين الذين هم منار الهدى، وبهم صان الله دينه ونشر رسالته.

وبهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحولت يثرب إلى (المدينة المنورة)، فقد نزلت على أرضها الطاهرة الشريعة الإسلامية، فتشرفت بتطبيقها جملة وتفصيلاً.

وهذه مكرمة لا تدانيها ولا تقاربها أية مدينة في العالم، فهي مهاجَرُ رسوله، ومظهر دعائه، ومأوى حبيبه، ومثوى خاتم أنبيائه صلى الله عليه وسلم.

ذكرت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أنه لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وُعِك أبو بكر وبلال، قالت: فدخلت عليهما، فقلت: يا أبت كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟ قالت: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:كل امرئ مصبح في أهله … والموت أدنى من شراك نعله وكان بلال إذا أقلع عنه، يرفع عقيرته ويقول:

أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً ∗∗∗ بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ؟

وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجِنَّةٍ ∗∗∗ وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ؟

قالت عائشة: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: “اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد، وصححها، وبارك لنا في صاعها ومُدها، وانقل حمّاها فاجعلها بالجحفة”.[1]

وقد طلع لرسول الله صلى الله عليه وسلم جبل أحد، فقال: «هذا جبل يحبنا ونحبه، اللهم إن إبراهيم حرم مكة، وأنا أحرم ما بين لابتيها».

ودعا لأهل المدينة قائلاً: «اللهم بارك لهم في مكيالهم، وبارك لهم في صاعهم ومدهم».[2]

وقال: “إنما المدينة كالكير تنفي خبثها، وينصع طيبها”.[3]

وقال: “وقد فتحت المدائن بالسيوف، وافتتحت المدينة بالقرآن”.[4]

قال جعفر بن محمد: قيل لمالك: اخترت مقامك بالمدينة، وتركت الريف والخصب؟ فقال: وكيف لا أختاره، وما بالمدينة طريق إلا سلك عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجبريل عليه السلام ينزل عليه من عند رب العالمين في أقل من ساعة».

فهي دار الهجرة، ودار السنة، وفيها قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها روضة من رياض الجنة، وفيها منبره ومحرابه، وليس هذا في أية بقعة أخرى في العالم.

والمدينة المنورة هي أول بقعة شهدت تطبيق الأحكام الشرعية على كافة شؤون الحياة، سواء ما كان يتعلق بالعبادات أم المعاملات، أم بالأخلاق والآداب.

المدينة دار السنة ومركز تخريج الأئمة:

ومن مدرسة المدينة تخرج الفقهاء والمجتهدون، والساسة والمفكرون، وملؤوا أرجاء العالم، وهاجروا إليها للتبليغ والإرشاد، وعلى الرغم من هجرة الصحابة إلى الآفاق إما للغزو أو لنشر الإسلام وتثقيف المسلمين، فقد بقي عدد كبير منهم في المدينة المنورة.

مشاهير الصحابة في المدينة:

 ولقد ذكر ابن حبان في كتابه اللطيف «مشاهير علماء الأمصار»: من مشاهير الصحابة بالمدينة المنورة 152 صحابياً مشهوراً، وبمكة المكرمة 61 صحابياً مشهوراً، وبالبصرة 51 صحابياً مشهوراً، وبالكوفة 54 صحابياً مشهوراً.

وإذا جمعنا مشاهيرهم من الشام ومصر واليمن وخراسان فيكون عددهم في هذه البلدان بالمجموع 98 صحابياً مشهوراً حسبما ذكره ابن حبان في كتابه «المشاهير».

وإذا نظرنا إلى التابعين الكبار المشهورين، نجد المشاهير من التابعين بالمدينة المنورة 170 تابعيّاً، وبمكة المكرمة 51 تابعياً، والبصرة 92 تابعياً، وبالكوفة 118 تابعياً، وبسائر الأمصار: الشام ومصر واليمن وخراسان 161 تابعياً.

وفي عصر أتباع التابعين نجد المشاهير من أتباع التابعين بالمدينة 133، وبالبصرة 107، وبالكوفة 104.

فهذه الإحصائية العلمية في ضوء كتابات ابن حبان رحمه الله تعطي للمدينة المنورة سهم الأسد في مجال العلم والعلماء من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنتصف الثاني من القرن الثاني.

ويستحسن بنا هنا أن نستفيد من المعلومات التي أوردها ابن حزم رحمه الله في “الإحكام في أصول الأحكام”[5] حيث قال:

المكثرون من الصحابة رضي الله عنهم فيما روي عنهم من الفتيا:

1 – عائشة أم المؤمنين [المدينة].

2 – عمر بن الخطاب [المدينة].

3- ابنه عبد الله [المدينة].

4 – علي بن أبي طالب [المدينة، ما عدا الخمس سنوات الأخيرة تقريباً].

5 – عبد الله بن العباس [المدينة، مكة، الطائف].

6 – عبد الله بن مسعود [المدينة، الكوفة].

7 – زيد بن ثابت [المدينة].

فهم سبعة، يمكن أن يجمع من فتيا كل واحد منهم سفر صخمٌ، وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن أمير المؤمنين المأمون فتيا عبد الله بن عباس في عشرين كتاباً، وأبو بكر المذكور أحد أئمة الإسلام في العلم والحديث».

والمتوسطون منهم فيما رُوِي عنهم من الفتيا رضي الله عنهم:

1 – أم سلمة أم المؤمنين.

2 – أنس بن مالك.

3 – أبو سعيد الخدري.

4 – أبو هريرة.

5 – عثمان بن عفان.

6 – عبد الله بن عمرو بن العاص.

7 – عبد الله بن الزبير.

8 – أبو موسى الأشعري.

9 – سعد بن أبي وقاص.

10 – سلمان الفارسي.

11 – جابر بن عبد الله.

12 – معاذ بن جبل.

13 – أبو بكر الصديق.

فهم ثلاثة عشر فقط، يمكن أن يجمع من فتيا كل امرئ منهم جزء صغير جداً، ويضاف إليهم:

14 – طلحة.

15 – الزبير.

16 – عبد الرحمن بن عوف.

17 – عمران بن الحصين.

18 – أبو بكرة.

19 – عبادة بن الصامت.

20 – معاوية بن أبي سفيان،

والباقون منهم رضي الله عنهم مقلون في الفتيا، لا يروي الواحد منهم إلا المسألة، والمسألتين، والزيادة اليسيرة على ذلك فقط. يمكن أن يجمع من فتيا جميعهم جزء صغير فقط بعد التقصي والبحث».

فإذا قرأنا ما كتبه ابن حبان في ضوء تفصيل ابن حزم نرى أنه رغم تفرّق الصحابة في الأمصار بقي أربعة من السبعة بالمدينة من المكثرين من أصحاب الفتيا، وهم: أم المؤمنين عائشة، وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت.

وحتى أولئك الذين خرجوا من المدينة إلى أماكن أخرى قد أنفقوا جل أعمارهم بالمدينة مثل: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود.

وبما أن حظ المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كبيراً، فقد كان له أثر في إيجاد حركة علمية، وإخراج عدد كبير من التابعين الذين نشروا الشريعة وثبّتوا الدين.

مشاهير التابعين بالمدينة:

وكان من أبرز التابعين الذين كانوا قد تتلمذوا على الصحابة بالمدينة المنورة:

1 – القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق (35 – 105هـ).

2 – أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام (23 – 94هـ).

3 – سليمان بن يسار الهلالي مولى أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها (24 – 100هـ).

4 – سعيد بن المسيب بن حزن القرشي المخزومي (15 – 94هـ).

5 – عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود بن غافل الهذلي (00 – 98هـ).

6 – عروة بن الزبير بن العوام القرشي الأسدي (00 – 94هـ).

7 – خارجة بن زيد بن ثابت (30 – 100هـ).

8 – أبو بكر بن سليمان بن أبي حثمة العدوي المدني.

9 – سالم بن عبد الله بن عمر (0 – 106هـ).

10 – عبيد الله بن عبد الله بن عمر (0 – 106هـ).

11 – عبد الله بن عمر بن ربيعة (10 – 89هـ تقريباً).

12 – أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف (22 – 94هـ).

13 – قبيصة بن ذؤيب (1 – 87هـ).

هؤلاء بعض كبار التابعين من الفقهاء والمفتين بالمدينة المنورة في القرن الأول، والذين كانوا يشكلون مجالس علمية تسمى بالفقهاء الاثني عشر، أو العشرة، أو الفقهاء السبعة، وهذه التسمية الأخيرة أكثر شهرة.

وقد ألف أحد تلامذة هؤلاء السبعة أبو الزناد عبد الله بن ذكوان القرشي المدني (64 – 130هـ) ما سمي فيما بعد ذلك «كتاب السبعة»، وقد روى عنه ابنه عبد الرحمن بن أبي الزناد المتوفى سنة 174هـ هذا الكتاب.

قال ابن المديني: لم يكن بالمدينة بعد كبار التابعين أعلم من الزهري ويحيى بن سعيد، وأبي الزناد، وبكير بن عبد الله الأشج.

وكان أبو الزناد كاتب بني أمية.

وكان فقيهاً صاحب كتاب.

وفي ضوء ما نقلنا من وفيات الفقهاء السبعة أو العشرة نجد نهاية القرن الأول تعتبر نهاية تلك النجوم اللامعة ووداعهم لهذه الأرض، رحمهم الله، ورضي الله عنهم أجمعين.

وفي نهاية القرن الأول، عندما بدأ يتوارى من السماء نجم تلو آخر، ولد في تلك الآونة نجم جديد، وهو مالك بن أنس، نهلَ من تراثهم، ومشى على دربهم، وسلك مسلكهم في سبيل نشر الشريعة، إذ هو عالم مجتهد من كبار مجتهدي الأمة، وهو تلميذ نجيب لتلاميذ هؤلاء السبعة أو العشرة، ناقل لتراثهم، وهو أيضاً امتداد في أصوله وفروعه لتلك الشجرة الباسقة اليانعة.


الهوامش

[1]  انظر موطأ مالك ت عبد الباقي (2/ 890)

[2]  أخرجه البخاري في صحيحه (6714)، ومسلم في صحيحه (1368).

[3]  أخرجه البخاري في صحيحه (1883)، ومسلم في صحيحه (1383).

[4]  جزء فيه أحاديث نافع بن أبي نعيم لابن المقرئ (ص: 49).

[5]  الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (5/ 93-92).

Join our list

Subscribe to our mailing list and get interesting stuff and updates to your email inbox.

Thank you for subscribing.

Something went wrong.

Leave a Reply