غزة سيبقى اسمها محفورًا

غزة سيبقى اسمها محفورًا في جبين التاريخ

غزة سيبقى اسمها محفورًا في جبين التاريخ

محمد أجمل القاسمي، الأستاذ بالجامعة القاسمية شاهي بمدينة مرادآباد، يوبي، الهند

إنها غزة، غزة العزة و الإباء، غزة الحرية و الكرامة و الكبرياء، غزة الصبر و الصمود، إنها صانعة للبطولات و الأمجاد، فاعلة للعجائب و المعجزات، إنها غزة التي ستبقى عنوان العز والفخر في جبين التاريخ، و ستستمرُّ في ضَخّ معنويات و طموحات في الأجيال إذا ما اعتراها الملل والكسل ومشاعر خيبة الأمل، و تنفخ روح الثأر و الانتصار و الإصرار على المبدإ في الشعوب المقهورة المُستَضعفَة في أي بقاع الأرض، إنها سوف تُذكي جمرةَ الغيرة والحمية و المقاومة المُشرَّفة ضد أي عدوان وأي احتلال مادام على وجه الأرض عدوان و احتلال.

إنها غزة التي أعادت ثقة الشباب الإسلامي بالإٍسلام، وقدّمت لنا أروع مُثُل للاستبسال والشهامة، وذكَّرتنا ببطولات حمزة، و علي، و خالد، و طلحة، و الزبير، و عمرو بن معديكرب، و ضرار، وأبي محجن. إنها غزة التي إذا تسلحت بسلاح الإيمان و اليقين أذهلت العالم ببطولتها، وبسالتها، و صبرها و صمودها، و فدائها لمقدساتها، و أرضها و حريتها، كما أدهشت العالم بأخلاقيتها و إنسانيتها و سلوكياتها النبيلة الفاضلة.

إنها غزة التي صدَّقت قولَ القائل: ‘‘لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح بها أولها’’ وهل كان صلاح أول هذه الأمة إلا بالإيمان، و اليقين، و التوكل، و الثقة المطلقة بالله؟ وهل صلحت غزة اليوم إلا بتلك المعاني النبيلة؟ أمَا بُهِت العالم اليوم عندما انتصرت غزة المحاصَرة التي حُرِمَت  أبسطَ وسائل الحرب أمام قُوَى الطغيان والاستكبار، المُدجَّجة بأحدث السلاح و المُّعدات الحربية، و ضد جبروت التكنولوجيا الحديثة في حرب غير متكافئة تمامًا، كما بُهِتَ العالمُ بالأمس في وقعة بدر إذا انتصرت الفئة المؤمنة القليلة العازلة من أبسط مُعدات الحرب ضد قوة الطغيان و العصيان و الاستكبار في الأرض، التي خرجت من ديارها بطرًا و رياءَ الناس تصد عن سبيل الله، والتي زين لها الشيطان أعمالها فقال لا غالب لكم اليوم من الناس و إني جار لكم؟ .

إنها غزة التي أعادت لنا تاريخنا المشرق النير، فواجهت من التجويع وحرمان الماء والغذاء والدواء ومن الهول ما يشيب له الولدان، وما لم يخطر قط على بال انسان، فصبرت و صمدت صمود الجبال الراسيات، و ماضعفت وما استكانت، وما استسلمت للعدو الجبار، كما صمدت الأمس تلك العصابةُ المؤمنة في شعب أبي طالب تحت رعاية سيدها الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم أمام مقاطعة قريش، حتى كسرت كبرياء الظلم و جبروت العدوان.

إنها غزة التي علمت أن الحق المغصوب بالقوة لايُستَردُّ إلا بالقوة، وعلمت أن الشعوب مالم تستقبل الموت لا توهب لها الحياة، وعلمت أن للحرية ثمنًا باهظًا من الأرواح والأموال والوسائل والأحلام لابد أن يؤديه الشعب مادام يطمح في الحرية، فهان عليها بذل النفس و النفيس والغالي والرخيص في سبيل ذلك، حتى صدح  قائدهم من الخطوط الأمامية في ساحات القتال، وقبل أن يرتقي شهيدًا إلى الله:

وللحرية الحمراء باب

 بكل يد مُضرَّجة يُدَقُّ

إنها غزة التي ضربت بقوة إيمانها الطغيان العاتي المتمرد فأدمَغه فاذا هو وَاهٍ كوهن بيت العنكوت وهَشٌ كهشاشة الزجاج، حالَ أن العالم كان يعتبرها قوةً لاتُتَحدى، وجبروتَا لايُقهَر، ودولة لايمكن مَساسُها بسوء.

إنها غزة التي سفَّهت مخابرات الدولة العبرية المجرمة التي كان الناس يعتقدونها بأن كل ما يجري في العالم من صغير وكبير وخفي وجلي إنما يجري تحت أعينها ومراقبتها، فلاتخفى منها خافية ما كان وأينما كان، فجعلتها تَتِيهُ في أرضها- في تلك المنطقة الصغيرة المدمَّرة- تبحث عن أسراها بجميع أدواتها الاستخباراتية المتطورة الدقيقة هائمةً على وجهها دونما جدوى، كما تاهَ سلُفها من بني إسرائيل في عهد موسى عليه السلام أربعين عامًا في منطقة أرض صغيرة دون أن يهتدوا سبيلاً. إنها غزة  التي عرّت موساد المزعومة أمام العالم بعد أن فخَّم الإعلام العالمي شأنها تفخيمًا يرتاع لها قلوب الرؤساء والملوك.

إنها غزة التي عَرَّت أمام العالم نفاق المنظمات الدولية التي طالما طبِّلت للدفاع عن حقوق الإنسان و حماية أرواح الأبرياء من الشيوخ والأطفال والنساء والمدنيين، وعدم التعرض لهم و لمصالحهم من الغذاء والماء الدواء والكهرباء والمدارس والمعابد والمشافي، كما أنها تعتبر التعرض لها من الجرائم الحربية، وتُدين مرتكبيها بشدة، و تُوقفها للمسائلة، إنها- غزة- كشفت سوآت تلك المؤسسات و الهئيات الدولية، وما تَتَّبعه من ازدواجية المعايير للتعامل مع القضايا المطروحة أمامها، فإنها تتحرك سريعًا و تُصدِّع رؤوس الناس بهتافات و شعارات الدفاع عن حقوق الإنسان إذا كان ذلك كله يخدم مصالح القوى الكبرى ودول الاستعمار و الاحتلال، وأما إذا كان ذلك كله يخدم مصالح الدول و الشعوب الضعيفة، و يعارض مصالح الدول القوية فإنها تُعمي أبصارها وتُصِم آذانها ولاتتحرك إلا بعد لأي، ولا تفعل سوى إصدار بيانات التنديد و الاستنكار. لقد فضحت غزةُ تلك المنظمات الدولية، و انتزعت من وجوهها البغضية تلك الأقنعة الجميلة التي كانت تتستر وراءها، وجلّت للعالم بأن تلك المؤسسات ما أنشئت إلا لخدمة مصالح الدول الشعوب القوية على حساب مصالح الدول و الشعوب الضعيفة وليس إلا.

إنها غزة التي أصحبت شوكة في حلقوم الجيش الإسرائيلي الأسطوري، وشكلت صخرة عاتية في وجهه فكسرت كبرياءَه، وألحقت به هزيمة نكراء، وعارًا لايغسله الماء، وضربة قاسية مَسَّته في أعماقه.

إنها غزة التي واجهت بثبات ويقين قوات العدو التي اكتسحت أراضيها بدباباتها المحصَّنة وناقلات جندها المدرعة، ومُسّيَّرات مراقِبة، وجرافهاتها المدمِّرة، وآلياتها الثقلية بعد أن فرغت من إحراقها وتدميرها ومحو الجزء الكبير منها بآلاف طن من القنابل والصوارخ ذات الدمار الشامل التي هطلت شهرا كاملاً بمدرار واستمرار، وقد جاء هذا الاكتساح مُرفَقا بادعاعات عريضة من اجتثاث المقاومة، وضم المنطقة إلى حكمها، وتحرير أسراها بقوتها العسكرية، وقد ظنوا وظن العالم معه أنهم سيحققون انتصارًا غير مسبوق، وأن النصر المُطلق منهم بقاب قوسين أو أدنى، فقُوبلوا بما لم يخطر قط منهم على بال، و فوجئوا بما لم يكن في الحسبان، و انقلبت غزة لهم وحلًا يبتلع نخبتهم واحداً تلو آخر، وجحيمًا عليهم لايطاق، فاندحروا خائبين، لم يحققوا هدفًا ولم ينالوا خيرًا:

{ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا } [الأحزاب: 25]

إنها غزة التي صمدت رغم القصف الهمجي الوحشي، واستمرار آلة القتل ونزيف الدم، و حرب الإبادة، و تدمير البيوت على رؤس أهلها، وتقتيل أطفالها و نسائها، و رغم كل نار و دمار و معاناة، وكل تجويع و تعطيش و حرمان، وكل محاولة للتهجير القسري، وكل مآسي ومآتم وآلام لاتكاد تعرف حدًا ونهاية، بل وكلما اشتدت بهم وطأة المحن وقساوة الظروف ازدادوا صمودًا وشموخًا:

{ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ،  لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 22، 24]

إنها غزة التي تجلّت في أهلها، رجالها و نسائها، صغارها و كبارها، شبابها وشيوخها حقِّيةُ قول الله عزوجل:

{كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]

 وتبّدت فيهم حقِّيةُ قوله تعالى:

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7]

وتَمثّل فيهم صدقُ قول الله جل وعلا:

{لَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } [محمد: 35]

فسلام عليك يا غزة، يا غزة المشرفة، يا أسطورة التاريخ، وسلام عليكم يا أهلها الغُرّ الميامين الأحرار بما صبرتم، فنعم عقبى الدار، يتقبل الله شهداءكم يا أهل الأرض المباركة، و يشفي جرحاكم و مرضاكم، ويفرج عن عظيم مصابكم، و يُمَرهِمُ قلوبكم، و يُبَلسِم جراحَكم، و عوَّضكم عن ما لحق بكم من خسائر بشرية و مادية و معنوية، و كتب لكم النصر و التوفيق و السداد، و الغلبة والعزة و الاستقلال، و أزاح بكم دولة الظلم والعدوان، ذلك السرطان البغيض المغروس في أرضكم أرض الإسلام. آمين

محمد أجمل القاسمي

الأستاذ بالجامعة القاسمية شاهي بمدينة مرادآباد، يوبي، الهند.

تحريرا في يوم الجمعة غرة شعبان1446ه= 31يناير2025م

Join our list

Subscribe to our mailing list and get interesting stuff and updates to your email inbox.

Thank you for subscribing.

Something went wrong.

Leave a Reply