غزوة فتح مكة

غزوة فتح مكة اسبابها ونتائجها، سبب غزوة فتح مكة

الإعداد: محمد هاشم البستوي القاسمي

ولما تم أمر الله في ترسيخ هذا الدّين، وتربية المسلمين، وامتحن الله قلوبهم للتّقوى، وفاضت كأس قريش ظلما وعدوانا، وجحودا بالحقّ، وصدّا عن سبيل الله، ومحاربة للإسلام وأهله، أراد الله أن يدخل رسوله والمسلمون مكة فاتحين غالبين، يطهّروا الكعبة من الرّجس من الأوثان وقول الزّور، ويعيدوا مكة إلى مكانتها الأولى، فتكون مثابة للناس وأمنا، ويجعلون البيت كما كان مباركا وهدى للعالمين.

سبب غزوة فتح مكة:

تقدم في بنود صلح الحديبية أن من أحب أن يدخل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فليدخل، ومن أحب أن يدخل في عهد قريش فليفعل، فدخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وقد مضى على الصلح قرابة عامين ولم يحدث من المسلمين ما يخل بالعهد، وقد حدث بعد مؤتة أن خيّل إلى قريش أن المسلمين قد ضعفوا وزالت هيبتهم، وخيّل إلى بني بكر أن ينالوا من خزاعة أحلاف الرسول، وقد كان بين بني بكر وبين خزاعة ترة قديمة، وعداء متوارث، يرجع تاريخه إلى ما قبل البعثة، وجاء الإسلام فحجز بينهم، وتشاغل الناس بشأنه، فلمّا كانت الهدنة، ودخلت القبيلتان في معسكرين متحاربين، أراد بنو بكر أن ينتهزوا هذه الفرصة، ليصيبوا من خزاعة الثأر القديم، فبيّت نفر من بني بكر لخزاعة في شهر شعبان سنة 8 هـ، وهم على ماء لهم يسمى (الوتير) فأصابوا منهم رجالا، وتناوشوا واقتتلوا.

وأعانت قريش بني بكر بالسّلاح، وقاتل معهم أشراف من قريش مستخفين ليلا، حتّى حازوا خزاعة إلى الحرم، فلمّا انتهوا إليه قالت بنو بكر لبعض رجالهم: إنّا قد دخلنا الحرم، إلهك! إلهك! فقال: لا إله اليوم! يا بني بكر، أصيبوا ثأركم، فلا تجدون هذه الفرصة بعد ذلك.

فقدم عمرو بن سالم الخزاعي إلى رسول الله بالمدينة يخبره بغدر قريش وإخلافهم العهد وأنشد أبياتا من الشعر أمام الرسول صلى الله عليه وسلم يستنصره، فقال:

يا رب إني ناشد محمدا           حلف أبينا وأبيه الأتلدا

قد كنتم ولدا وكنا والدا       ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا

فانصر هداك الله نصرا أعتدا     وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجردا      إن سيم خسفا وجهه تربدا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا      إن قريشا أخلفوك الموعدا

فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “نصرت يا عمرو بن سالم”.[1]

ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء فقال: ;إن هذه السحابة لتستهل بنصر بنى كعب. ثم خرج بديل بن ورقاء فى نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأخبروه تفاصيل الخبر، وأن قريشا ساعدت بني بكر على قتل رجال خزاعة، ثم انصرفوا راجعين إلى مكة.[2]

إرساله صلى الله عليه وسلم ضمرة الى قريش يخيرهم بين أمور ثلاثة:

وروى ابن عائذ، عن ابن عمر: أن ركب خزاعة لما قدموا وأخبروه خبرهم، قال صلى الله عليه وسلم: ;فمن تهمتكم وظنتكم؟: قالوا: بنو بكر: قال: ;أكلها؟: قالوا: لا ولكن بنو نفاثة ورأسهم نوفل بن معاوية النّفاثي، قال: “هذا بطن من بني بكر، وأنا باعث إلى أهل مكة، فسائلهم عن هذا الأمر ومخيرهم في خصال ثلاث”، فبعث إليهم ضمرة يخبرهم بين أن يدوا قتلى خزاعة، أو يبرءوا من حلف بني نفاثة أو ينبذ إليهم على سواء، فأتاهم ضمرة، فأخبرهم، فقال قرطة بن عمرو: لا ندي ولا نبرأ لكنا ننبذ إليه على سواء، فرجع بذلك فندمت قريش على ما ردوا وبعثت أبا سفيان بن حرب تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجدد العهد، انتهى.[3]

خروج أبي سفيان إلى المدينة ليجدد الصلح:

ولما ندمت قريش على نقضهم العهد وتخوفوا سوء صنيعهم عقدت مجلسا استشارياً، وقررت أن تبعث قائدها أبا سفيان ممثلاً لها، ليقوم بتجديد الصلح.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أصحابه بما ستفعله قريش إزاء غدرهم فقال: ;كأنكم بأبى سفيان قد جاءكم ليشد العقد وليزيد فى المدة:. وخرج أبو سفيان من مكة ولقي بديلا وأصحابه بعسفان فقال له: من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سرت فى خزاعة فى هذا الساحل وفى بطن هذا الوادي. فقال أبو سفيان: أو ما جئت محمدا؟ قال: لا. فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان بديل جاء المدينة لقد علف بها النوى. فأتى مبرك راحلته فأخذ من بعرها ففتّه فرأى فيه النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمدًّا.

إيثار النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الآباء والأبناء:

استمر أبو سفيان في مسيره حتى قدم المدينة، والتقى بابنته أم حبيبة، وظن أن ابنته قد تكون شفيعًا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنها بادرته بما ألقى فى نفسه اليأس، وذلك أنه لما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه فقال: يا بنية، ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت رجل نجس مشرك، فلم أحب أن تجلس عليه. قال: والله يا بنية لقد أصابك بعدي شر، فقالت: بل هداني الله للإسلام، وأنت يا أبت سيّد قريش وكبيرها، كيف يسقط عنك الدّخول في الإسلام، وأنت تعبد حجرًا لا يسمع ولا يبصر؟ فقام من عندها.[4]

 وهذا الموقف لا يستغرب من أم حبيبة، فهي ممن هاجر الهجرتين وقد قطعت صِلاتها بالجاهلية منذ أمد بعيد، إنها لم تر أباها منذ ست عشرة سنة، فلما رأته لم تر فيه الوالد الذي ينبغي أن يقدر ويحترم، وإنما رأت فيه رأس الكفر الذي وقف في وجه الإسلام وحارب رسوله تلك السنوات الطويلة، وهذا ما كان يتصف به الصحابة رضي الله عنهم من تطبيق أحكام الإسلام في الولاء والبراء وإعزاز الإسلام والمسلمين. وفي مخاطبة أم حبيبة لأبيها بهذا الأسلوب -مع كونه أباها ومع مكانته العالية في قومه وعند العرب- دليلٌ على قوة إيمانها ورسوخ يقينها، لقد كان في سلوك أم حبيبة مظهر من اجتهاد الصحابة البالغ في إظهار أمر له أهميته البالغة في المحافظة على شخصية المسلم ودفع معنوياته إلى النماء والحيوية[5].

ثم خرج  أبو سفيان حتى أتى صلى الله عليه وسلم فكلمه في تجديد العقد فقال: يا محمد اشدد العقد، وزدنا في المدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ولذلك قدمت هل كان من حدث قبلكم؟” قال: معاذ الله نحن على عهدنا وصلحنا يوم الحديبية، لا نغير ولا نبدل، فلم يرد عليه شيئا.

 طلب أبي سفيان الشفاعة من كبار الصحابة:

فلما رأى أبو سفيان أنه لم يحصل من رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء  ذهب إلى أبى بكر رضي الله عنه فكلمه أن يكلم له صلى الله عليه وسلم فقال: ما أنا بفاعل. ثم أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكلمه فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به. ثم خرج حتى دخل على علىّ بن أبى طالب وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندها حسن بن علي غلام يدب بين يديها فقال: يا علي، إنك أمس القوم بي رحما وإني قد جئت في حاجة فلا أرجعن كما جئت فاشفع لي، قال: ويحك يا أبا سفيان، والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكمله فيه. فالتفت إلى فاطمة فقال: يا بنت محمد، هل لك أن تأمري بنيك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر.

قالت: والله ما بلغ بنى ذلك أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: يا أبا حسن، إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني. قال: والله ما أعلم شيئا يغني عنك شيئا ولكنك سيد بني كنانة فقم فأجر بين الناس ثم ألحق بأرضك، قال: أو ترى ذلك مغنيا عني شيئا؟ قال: لا والله ما أظنه ولكنني لا أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان فقال: أيها الناس، إني قد أجرت بين الناس. ثم ركب بعيره فانطلق. فلما قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمدا فكلمته فو الله ما رد علي شيئا، ثم جئت ابن أبي قحافة فلم أجد فيه خيرا. ثم جئت ابن الخطاب فوجدته أدنى العدو. ويقال: أعدى العدو، ثم أتيت عليا فوجدته ألين القوم، وقد أشار علي بشيء صنعته فو الله ما أدري هل يغني شيئا أم لا؟ قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس ففعلت.

قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا. قالوا: ويلك! والله ما زاد الرجل على أن لعب بك فما يغنى عنك ما قلت. قال: لا والله ما وجدت غير ذلك.[6]

استعداد النبي صلى الله عليه وسلم للخروج وكتمانه الأمر:

أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتجهّز للغزو وأخفى وجهته، حتى يفاجئ قريشًا، فيتحقق له النصر بأقل الخسائر، ودعا الله تعالى قائلًا: ;اللهمَّ عمِّ عَليهم خَبَرَنا حتى نأخُذَهم بغتةً:[7]، وأمر أهله أن يجهزوه، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة وهي تحرك بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أي بنية أأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تجهزوه؟ قالت: نعم، فتجهز، قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: لا والله ما أدري. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة وأمرهم بالجد والتهيؤ، فتجهز الناس.[8]

كتاب حاطب بن أبي بلتعة:

كان المجتمع الإسلاميّ المدنيّ أيضاً مجتمعًا بشرياً يعيش في واقع الحياة، وبين المشاعر الإنسانيّة، وخواطر النفس ورغباتها، فكان فيه أفراد يصيبون ويخطئون، وقد يكونون متأوّلين في تصرّفاتهم وأحكامهم، وقد يجانبهم الصواب في هذا التأويل، وذلك من خصائص المجتمعات البشريّة التي تتمتّع بالحريّة والثقة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لا يقرّهم على هذا الخطأ، يلتمس لهم العذر، ويتسامح معهم، وكان من أوسع الناس صدراً مع هؤلاء المخطئين، وأكثرهم معرفة بفضلهم وحسن بلائهم في الجهاد، وسوابقهم في الإسلام، وقد حفظ لنا الحديث وكتب السيرة النبويّة وتاريخ الإسلام مثل هذه الحوادث النادرة في الوقوع، وهو ممّا يدلّ على أمانتها وشهادتها بالحقّ.[9]

ومن هذه الحوادث ما وقع لحاطب بن أبي بلتعة، أنه كتب كتاباً إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمر في السير إليهم، ثم أعطاه امرأة مشركة من قريش[10] وجعل لها جعلاً على أن تبلغه قريشاً. فجعلته في رأسها ثم فتلت عليه قرونها ثم خرجت به، ولكنّ الله تعالى أخبر نبيّه صلى الله عليه وسلم بما قام به حاطب، فأرسل عددًا من فرسان أصحابة يأتوه بالرسالة قبل أن تصل لقريش.

روي عن علي قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير، والمقداد بن الأسود، قال: ;انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ[11]، فإن بها ظعينة، ومعها كتاب فخذوه منها:، فانطلقنا تعادى بنا خيلنا حتى انتهينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا حاطب ما هذا؟”، قال: يا رسول الله، لا تعجل علي إني كنت امرأً ملصقا في قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم، أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلت كفرا ولا ارتدادا، ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لقد صدقكم”، قال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال: “إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم”.[12]

فأنزل الله تعالى في حاطب

﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَتّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدّةِ﴾ إلَى قَوْلِهِ ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ﴾

إلَى آخِرِ الْقِصّةِ.[13]

وفي رواية عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد الغنوي، والزبير بن العوام، وكلنا فارس، قال: ;انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها امرأة من المشركين، معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين: فأدركناها تسير على بعير لها، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: الكتاب، فقالت: ما معنا كتاب، فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابا، فقلنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتخرجن الكتاب أو لنجردنك، فلما رأت الجد أهوت الى حجزتها، وهي محتجزة بكساء، فأخرجته، فانطلقنا بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: يا رسول الله، قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “ما حملك على ما صنعت”؟ قال حاطب: والله ما بي أن لا أكون مؤمناً بالله ورسوله، أردت أن يكون لي عند القوم يدٌ يدفع الله بها عن أهلي ومالي، وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “صدق ولا تقولوا له إلا خيرا” فقال عمر: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين، فدعني فلأضرب عنقه، فقال: “أليس من أهل بدر؟” فقال: ;لعل الله اطلع إلى أهل بدر؟ فقال: اعملوا ما شئتم، فقد وجبت لكم الجنة، أو: فقد غفرت لكم: فدمعت عينا عمر، وقال: الله ورسوله أعلم[14].

إقالة ذوي العثرات:

وهذا درس هام من دروس هذه الحادثة، فالخطأ الذي اقترفه هذا الصحابي الجليل ليس بالخطأ اليسير، إنه كشف أسرار الدولة المسلمة لأعدائها، ثم هذا الصحابي ليس من عوام الصحابة، بل هو من أولي الفضل منهم، إنه من أهل بدر، ويكفيه هذا شرفًا، والصحابة بمجموعهم خير القرون بقول الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع كل هذا زلت به القدم في لحظة من اللحظات، وكم للنفس البشرية من زلات، وهذا من سمات الضعف البشري والعجز الإنساني، ليُعْلِم الله عباده المؤمنين بأن البشر ما داموا ليسوا رسلاً ولا ملائكة فهم غير معصومين من الخطأ، وهذا الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون”. وقد عامل النبي صلى الله عليه وسلم حاطباً معاملة رحيمة تدل على إقالة عثرات ذوي السوابق الحسنة، فجعل صلى الله عليه وسلم من ماضي حاطب سبباً في العفو عنه، وهو منهج تربوي حكيم. فلم ينظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى حاطب من زاوية مخالفته تلك فحسب -وإن كانت كبيرة-، وإنما راجع رصيده الماضي في الجهاد في سبيل الله وإعزاز دينه، فوجد أنه قد شهد بدراً، وفي هذا توجيه للمسلمين إلى أن ينظروا إلى أصحاب الأخطاء نظرة متكاملة، وأن يأخذوا بالاعتبار ما قدموه من خيرات وأعمال صالحة في حياتهم، في مجال الدعوة والجهاد، والعلم والتربية. إن إقالة العثرة، والعفو عن صاحب الخطأ والزلة، ليس إقرارا لخطئه، ولا تهوينا من زلته، ولكنها -مع الإنكار عليه ومناصحته- إنقاذ له، بأخذ يده ليستمر في سيره إلى الله، وعطائه لدين الله.[15]

خروج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة واستخلافه أبا رهم:

ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة في رمضان[16] سنة ثمان للهجرة في عشرة آلاف مقاتل من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب، وقد ألفت مزينة وكذا بنو سليم على المشهور رضي الله عنهم، واستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن حصين الغفاري، وذلك ليعلم الناس أنه لا تفاوت في الولاية بالنسب، فقد ولي من الأنصار والمهاجرين من بطون قريش وغيرهم.

هجرة العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه:

ولما كان بالجحفة أو فوق ذلك لقيه عمه العباس بن عبد المطلب، وكان قد خرج بأهله وعياله مسلما مهاجرا، ولحق بالعسكر، فسار معه صلى الله عليه وسلم وبعث ثقله إلى المدينة، وكان قبل ذلك مقيما بمكة على سقايته، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنه راض.[17]

 إسلام أبي سفيان بن الحارث وعبد الله بن أمية:

لما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نبيق العقاب، فيما بين مكة والمدينة، لقيه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخوه من الرضاعة من حليمة السعدية، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، ابن عمة الرسول صلى الله عليه وسلم عاتكة بنت عبد المطلب، وأخو أم سلمة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم لأبيها. أما أبو سفيان فقد كان يألف رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يفارقه قبل النبوة، فلما بعث عاداه وهجاه وهجا أصحابه بقصائد كثيرة. وأما عبد الله بن أبي أمية فكان من أشد الناس إيذاء للرسول صلى الله عليه وسلم بعد النبوة فلما لقيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرض عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يلقى منهما من شدة الأذى، فالتمسا الدخول عليه، فكلمته أم سلمة رضي الله عنها فيهما فقالت: يا رسول الله! لا يكن ابن عمك وابن عمتك أشقى الناس بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال”.

فلما خرج الخبر إليهما بذلك قال أبو سفيان- ومعه ابنه جعفر-: والله ليأذنن لي أو لآخذن بيد ابني هذا، ثم لنذهبن في الأرض حتى نموت عطشًا وجوعًا. فلما بلغ ذلك رسول اللهصلى الله عليه وسلم رقّ لهما ثم أذن لهما، وقال علي -رضي الله عنه- لأبي سفيان: ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف عليه السلام: ﴿قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين﴾، فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن قولا منه، ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:

﴿قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [يوسف: 92]

فأسلم أبو سفيان وعبد الله بن أبي أمية، وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهما إسلامهما، وحسن إسلامهما، وأنشد أبو سفيان بن الحارث قوله في إسلامه، واعتذر إليه مما كان مضى منه، فقال:

لعمرك إنى يوم أحمل راية … لتغلب خيل اللات خيل محمد

لكالمدلج الحيران أظلم ليله … فهذا أوانى حين أهدى وأهتدى

هدانى هاد غير نفسى وقادنى … مع الله من طردت كل مطرد

فزعموا أنه لما أنشده هذا البيت ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم  فى صدره وقال: ;أنت طردتنى كل مطرد:[18].

نزول الجيش الإسلامي بمر الظهران:

وتابع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيره وهو صائم، والناس صيام، حتى بلغ كديدا – وهي عين جارية تبعد عن مكة 86 كيلا، وبينهما وبين المدينة 301 كيل – فأفطر وأفطر الناس معه. ولما وصل الجيش الإسلامي إلى مر الظهران -وادي فاطمة- عشاء، أمر النبي صلى الله عليه وسلم الجيش، فأوقدوا النيران، فأوقدت عشرة آلاف نار، فكان منظراً مهيباً، النيران ملء الأرض، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحرس عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكان الله قد عمى الأخبار عن قريش، فلا يأتيهم خبر عنه ولا يدرون ما هو فاعل، فهم على وجل وارتقاب، وكان أبو سفيان يخرج يتجسس الأخبار، فكان قد خرج هو وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار، حتى أتوا مر الظهران، فلما رأوا العسكر أفزعهم.[19]

أبو سفيان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم:

فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، قال العباس بن عبد المطلب: فقلت: واصباح قريش، والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه، إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر. قال: فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، فخرجت عليها حتى جئت الأراك، فقلت: لعلي أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة، فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة، فو الله إني لأسير عليها، وألتمس ما خرجت له، إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا، قال: يقول بديل: هذه والله خزاعة حمشتها الحرب. قال: يقول أبو سفيان: خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها، قال: فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة، فعرف صوتي، فقال: أبو الفضل؟ قلت: نعم، قال: ما لك؟ فداك أبي وأمي، قلت: ويحك يا أبا سفيان، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، واصباح قريش والله. قال: فما الحيلة؟ فداك أبي وأمي، قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول اللهصلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك، فركب خلفي ورجع صاحباه، فجئت به، كلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها، قالوا: عم رسول اللهصلى الله عليه وسلم على بغلته، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: من هذا؟ وقام إلي، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة، قال: أبو سفيان عدو الله! الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد، ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركضت البغلة، فسبقته بما تسبق الدابة البطيئة الرجل البطيء.

قال: فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليه عمر، فقال: يا رسول الله، هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عقد ولا عهد، فدعني فلأضرب عنقه، قال: قلت: يا رسول الله، إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذت برأسه، فقلت: والله لا يناجيه الليلة دوني رجل، فلما أكثر عمر في شأنه، قلت: مهلا يا عمر، فو الله أن لو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا، ولكنك قد عرفت أنه من رجال بني عبد مناف، فقال: مهلا يا عباس، فو الله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب لو أسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به، فذهبت به إلى رحلي، فبات عندي، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني شيئا بعد، قال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أما هذه والله فإن في النفس منها حتى الآن شيئًا. فقال له العباس: ويحك! أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك، فشهد شهادة الحق، فأسلم.

 قال العباس: قلت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل يحب هذا الفخر، فاجعل له شيئا، قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فلما ذهب لينصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عباس، احبسه بمضيق الوادي عند خطم الجبل، حتى تمر به جنود الله فيراها. قال: فخرجت حتى حبسته بمضيق الوادي، حيث أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أحبسه.[20]

ذهاب أبي سفيان لمكة وأمرهم بالاستسلام

وبعد ذلك رجع أبو سفيان إلى أهل مكة وصرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فقامت إليه هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه، فقالت: اقتلوا الحميت[21] الدسم[22] الأحمس،[23] قبح من طليعة[24] قوم! قال: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا:

قاتلك الله! وما تغني عنا دارك، قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.[25]

دخول جيوش المسلمين مكة:

وتحركت كل كتيبة من الجيش الإسلامي على الطريق التي كلفت الدخول منها، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة، وهو واضع رأسه تواضعا لله، ولم يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة دخول الفاتحين المتغطرسين، وبين يديه المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم، ورافعا كلّ شعار من شعائر العدل والمساواة، والتواضع والخضوع، وكان ذلك صبح يوم الجمعة لعشرين ليلة خلت من رمضان، سنة ثمان من الهجرة، وأردف أسامة بن زيد، وهو ابن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يردف أحدا من أبناء هاشم وأبناء أشراف قريش، وهم كثير، يقرأ سورة الفتح ويرجِّع في قرائتها.[26]

قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى: إن هذا الفتح المبين ليذكره بماض طويل الفصول، كيف خرج مطاردا؟ ، وكيف يعود اليوم منصورا مؤيدا. . .؟ ! وأي كرامة عظمى حفه الله بها في هذا الصباح الميمون! وكلما استشعر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه النعماء ازداد لله على راحلته خشوعا وانحناء، ويبدو أن هناك عواطف أخرى كانت تجيش[27] في بعض الصدور.[28]

وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم حرمة مكة وأنها لا تغزى بعد الفتح (7)، كما أعلى من مكانة قريش فأعلن أنه لا يقتل قرشي صبراً بعد يوم الفتح إلى يوم القيامة (8).

دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الحرام تطهيره من الأصنام

ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمهاجرون والأنصار بين يديه وخلفه وحوله المسجد الحرام وأمر بتحطيم الأصنام وتطهير البيت الحرام منها، وشارك في ذلك بيده فكان يهوي بقوسه إليها فتساقط وهو يقرأ:

﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: 81]

وكانت ستين وثلاثمائة من الأنصاب ولطخ بالزعفران صور إبراهيم وإسماعيل وإسحق وهم يستقسمون بالأزلام وكانت هذه الصور داخل الكعبة، وقال: قاتلهم الله ما كان إبراهيم يستقسم بالأزلام وفي رواية أن صورة مريم كانت داخل الكعبة أيضاً  ولم يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم الكعبة إلى بعد أن محيت هذه الصور منها.[29]

ثم صلى فيها ركعتين، وذلك بين العمودين المقدمين منها، وكانت مبنية على ستة أعمدة متوازية، وقد جعل باب الكعبة خلف ظهره، وترك عمودين عن يساره وعموداً عن يمينه وثلاثة وراءه.

وهكذا تم تطهير البيت العتيق من مظاهر الوثنية وأوضار الجاهلية ليعود كما أراد له الله تعالى وكما قصد ببنائه إبراهيم وإسماعيل مكانا لعبادة الله وتوحيده ولا شك أن تطهير البيت من الأصنام كان أكبر ضربة للوثنية في أرجاء الجزيرة العربية حيث كانت الكعبة أعظم مراكزها.[30]

دعوة رسول الرحمة إلى التوحيد ومعاملته مع قريش:

ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان بن طلحة فأعطاه مفتاح الكعبة، وكانت الحجابة في بني شيبة في الجاهلية فأبقايا بأيديهم، وكانت قريش قد ملأت المسجد صفوفا ينتظرون ماذا يصنع، فأخذ بعضادتي الباب وهم تحته، فقال: “لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا كلّ مأثرة أو مال أو دم، فهو تحت قدميّ هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج”.[31]

“يا معشر قريش! إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهليّة، وتعظّمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب” ، ثمّ تلا هذه الآية:

﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13].[32]

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يا معشر قريش! ما ترون أنّي فاعل بكم”؟

قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم!

قال: “فإنّي أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: لا تثريب عليكم اليوم اذهبوا فأنتم الطلقاء”.[33]

وأمر بلالا أن يصعد، فيؤذن على الكعبة، ورؤساء قريش وأشرافهم يسمعون كلمة الله تعلو، ومكّة ترتجّ بالأذان.

ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار أمّ هانىء بنت أبي طالب، فاغتسل، وصلّى ثماني ركعات صلاة الفتح شكرا لله عليه.[34]

إهدار دماء رجال من أكابر المجرمين:

وأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ دماء تسعة نفر من أكابر المجرمين، وأمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، وهم عبد العزى بن خطل، وعبد الله بن أبي سرح، وعكرمة بن أبي جهل، والحارث بن نفيل بن وهب، ومقيس بن صبابة، وهبار بن الأسود، وقينتان كانتا لابن خطل، كانتا تغنيان بهجو النبي صلى الله عليه وسلم، وسارة مولاة لبعض بني عبد المطلب، وهي التي وجد معها كتاب حاطب.[35]

فأما ابن أبي سرح، فجاء به عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وشفع فيه فحقن دمه، وقبل إسلامه بعد أن أمسك عنه، رجاء أن يقوم إليه بعض الصحابة فيقتله، وكان قد أسلم قبل ذلك وهاجر، ثم ارتد ورجع إلى مكة.[36]

وأما عكرمة بن أبي جهل ففر إلى اليمن، فاستأمنت له امرأته، فأمنه النبي صلى الله عليه وسلم فتبعته، فرجع معها وأسلم، وحسن إسلامه.[37]

وأما ابن خطل فكان متعلقا بأستار الكعبة، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره فقال: قتله. فقتله.[38]

وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبد الله، وكان مقيس قد أسلم قبل ذلك، ثم عدا على رجل من الأنصار فقتله، ثم ارتد ولحق بالمشركين.[39]

وأما الحارث فكان شديد الأذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فقتله علي.

وأما هبار بن الأسود فهو الذي كان قد عرض لزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجرت، فقال: فنخس بها حتى سقطت على صخرة وأسقطت جنينها، ففر هبار يوم مكة، ثم أسلم وحسن إسلامه.[40]

وأما القينتان فقتلت إحداهما، واستؤمن للأخرى، فأسلمت، كما استؤمن لسارة وأسلمت.

اقتله. فقتله.[41]

أثر فتح مكّة:

وكان لفتح مكّة أثر عميق في نفوس العرب، فشرح الله صدر كثير منهم للإسلام، وصاروا يدخلون فيه أرسالا.

وكانت عدّة قبائل بينها وبين قريش حلف، وكانت ممتنعة عن الدخول في الإسلام لمكانة هذا الحلف.

وكانت قبائل ترهب قريشا وتجلّها، فلما رأتهم استسلموا للإسلام ورغبوا فيه زال الحاجز.

وكانت قبائل تعتبر مكّة لا يفتحها ولا يدخلها ملك جبّار أو من يريد لها سوءا، ولا يزال فيها من عاصر حادثة الفيل، وشاهد ما فعل بأبرهة، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنّه إن ظهر عليهم فهو نبيّ صادق.[42]

فلمّا فتح الله لنبيّه مكّة، وخضعت قريش للإسلام طوعا أو كرها، أقبل العرب على الإسلام إقبالا لم يعرف قبل ذلك، وصاروا يدخلون في دين الله أفواجا، وصدق الله العظيم:

﴿إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً﴾ [النصر: 1- 2][43]


الهوامش

[1] انظر: سيرة ابن هشام (2/ 390)، والسيرة النبوية لأبي الحسن الندوي (ص: 444)، والسيرة النبوية على ضوء القرآن والسنة: (2/ 435)، والاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم والثلاثة الخلفاء (1/ 499).

[2] انظر: تاريخ الطبري (3/ 46)،  والكامل في التاريخ (2/ 116)، واللؤلؤ المكنون (4/11).

[3] انظر: شرح الزرقاني على المواهب اللدنية (3/ 384)، ومغازي الواقدي (2/ 787).

[4] انظر: سبل الهدى والرشاد (5/ 206)، والبداية والنهاية (4/ 320)، و السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي (ص: 445).

[5] غزوات الرسول دروس وعبر (ص: 300-301).

[6] انظر: سيرة ابن هشام (2/ 396-397)، ودلائل النبوة للبيهقي (5/ 8)، وعيون الأثر: (2/ 214)

[7] المعجم الكبير للطبراني (1052).

[8] سيرة ابن هشام (2/ 397).

[9] السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي (ص: 447).

[10] اسمها سارة قدمت إلى المدينة، وكانت مولاةً لرجل من بني هاشم، تطلب المساعدة إثر حاجة شديدة ألمّت بها، فحثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاربه على إعطائها، فأعطوها مالًا وثيابًا وجملًا تركبه، فخرجت عائدة إلى مكة. عندئذ اغتنم حاطب t عودتها وحمّلها رسالة إلى أهل مكّة مقابل مبلغ من المال دفعه لها.

[11] على بعد اثني عشر ميلا من المدينة. السيرة النبوية الصحيحة (2/474).

[12] صحيح البخاري (3007، 4890)، وسنن الترمذي (3305)، ومسند أحمد: (1/ 79).

[13] انظر: سيرة ابن هشام (2/ 398) والسيرة النبوية لابن كثير (3/ 536).

[14] صحيح البخاري (3983).

[15] انظر: السيرة النبوية للصلابي (ص: 490).

[16] وكان خروجه من المدينة لعشر خلون من رمضان ودخوله لتسع عشرة خلت منه وهو المشهور في كتب المغازي. وقد وقع اختلاف في تاريخ الفتح ما بين ثلاث عشرة وست عشرة وسبع عشرة وثماني عشرة من رمضان واتفقوا أنه في رمضان سنة ثمان.

[17] انظر سيرة ابن هشام (2/ 400)، وشرح الزرقاني على المواهب (3/ 399).

[18] انظر مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 165- 167)، ومستدرك الحاكم (3/ 43، 44)، واللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون (4/ 27).

[19] انظر: المواهب اللدنية بالمنح المحمدية (1/ 374)، والسيرة النبوية الصحيحة (2/ 475).

[20] سيرة ابن هشام (2/ 402-404).

[21] هو الوعاء الذي يكون فيه السمن ونحوه، فأرادت أن تنسبه إلى الضخم والسمن. انظر النهاية (1/ 419) – الروض الأنف (4/ 158).

[22] الدسم: الأسود الدنيء. انظر النهاية (2/ 110).

[23] الأحمس هنا: الذي لا خير فيه انظر الروض الأنف (4/ 158).

[24] الطليعة: الذي يحرس القوم.

[25] الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله  صلى الله عليه وسلم والثلاثة الخلفاء (1/ 504)

[26] انظر: اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون (4/ 53)، والسيرة النبوية الصحيحة روايات السيرة النبوية (2/ 482).

[27] تجيش: أي تفيض. انظر لسان العرب (2/ 435).

[28] انظر:  فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي رحمه الله تعالى.(ص 380).

[29] انظر: أخبار مكة للأزرقي (1/ 169)، سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد (5/ 239)

[30] السيرة النبوية الصحيحة محاولة لتطبيق قواعد المحدثين في نقد روايات السيرة النبوية (2/ 484)

[31] أخرجه أبو داود في سننه (4547)، وابن ماجه في سننه (2627)

[32] انظر:  زاد المعاد (1/424).

[33] انظر:  زاد المعاد (1/424).

[34] أخرجه البخاري في صحيحه (1176)، ومسلم في صحيحه (336).

[35] سيرة ابن هشام ت السقا (2/ 409)،  والروض الأنف (7/ 226)، عيون الأثر (2/ 224)

[36] عيون الأثر (2/ 224)

[37] مغازي الواقدي (2/ 851)

[38] السيرة النبوية وأخبار الخلفاء لابن حبان (1/ 334).

[39] مغازي الواقدي (2/ 860)، دلائل النبوة للبيهقي (5/ 58)، عيون الأثر (2/ 225).

[40] عيون الأثر (2/ 225)

[41] انظر: تاريخ الخميس في أحوال أنفس النفيس (2/ 90)

[42] أخرجه البخاري في صحيحه (4302).

[43] السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي (ص: 462)،

Join our list

Subscribe to our mailing list and get interesting stuff and updates to your email inbox.

Thank you for subscribing.

Something went wrong.

Leave a Reply